عن فهد العتيق.. الذي لم يخرج في أي حرب!
لا يغرنك سمت فهد العتيق الهادي فهو أشد كتاب السعودية ثورية، سأقولها وأجري على الله! لم يكن “أبو بدر” يومًا ألونسو كيخانو، لم يرفع قلمه في أي قضية ولم يخرج في أي حرب، ولو قرأت قصصه ورواياته صفحة صفحة لن تجد كلمة يعادي فيها أي أيدلوجية، لن تجد نصّا له يعرّض برجال الهيئة، لن يرفع شعار نصرة فئة مقموعة، لا تجد في أبطال قصصه من ينادي بحرية أيا كانت، بل على العكس هم المذعنون إذعانات صغيرة أزلية بأظافرهم الصغيرة الناعمة وبمشاريع رواياتهم الجاهلية غير المكتملة كما يليق بكائنات مؤجلة. العتيق “يتجاوز تلك القضايا الضخمة، التي علّقوها على مشجب التاريخ، لأنها لم تكن تهمهم أصلا، سوف يتجاوز عبدالناصر وحروب العرب مع إسرائيل، وقطع الملك فيصل للبترول عن أمريكا عام 73م، واحتلال جهيمان للحرم، واتفاق السلام بين السادات وإسرائيل والحرب الأهلية في لبنان، واجتياحه من قبل إسرائيل، واحتلال العراق للكويت، ومن ثم احتلال وسائل الاتصالات الحديثة للعالم، واحتلال أمريكا للشرق الأوسط” ويعتبرها أمورا كبرى/أمورا مضحكة.ليكون رافضا للكبت بطريقته. العتيق ثوري يورّي عن نفسه بأنه كاتب ما بعد حداثي.. لا بأس ذي تفضي لتيك.. وثورته الأدبية شعواء لا تترك حصاة على أختها، وتفعل ذلك بمنتهى الهدوء وبطريقته الفنية الأنيقة الهادئة، فـ”لا يهرب من مشكلات مجتمعه بافتعال أحداث، لكنه يبدع حالات تضاهي في قيمتها الفنية وطأة الواقع ليكون صوتا حقيقيا فنيا وليس متكررا أو مشابهًا”وهذه النظرة لعلاقة الكتابة الإبداعية بالواقع جوهرية في فهم أدب ما بعد الحداثة. ما يقدمه إما أن يعجبك جُله أو تعافه كله، لكنك لن تنفذ لروح رواياته من قراءة أولى. في قصصه كما في رواياته، لا خيط سرد ينتظم الحكي ليسهّل تتبعه، لا شخصيات مميزة تترك بصمتها المتفردة في روح القارئ، وهو يفعل ذلك متعمدا، حتى أن المرات القليلة التي تتجرأ فيها شخصية من أحد أعماله فتوشك على أن تتكامل وتدهش سيقصيها بصرامةفنية لخلفية السرد. نادية في الملك الجاهلي يتقاعد بطلة نص مدهش، سيضحي بها العتيق عامدا متعمدا، داوود الذي حملت رواية الملك الجاهلي اسمه، سيقصى أيضا. أبو خالد في كائن مؤجل ذلك الأب الذي تدهسه الطفرة، فيبني لأولاده بيتًا وحياة جديدة شمال الرياض ويموت صريعا على رمل حفره بيديه من ساس بيت الطين. “عفاف” شقيقة خالد التي خرجت من البيت القديم بمسجلها وأغانيها، عاشت صراعاتها مع الشقيق الأصغر أحمد الذي أراد دخول الجنة أولا بمحاربة مسجل عفاف وتلفزيون الأم قبل أن يذهب لأفغانستان، هذه العفاف (بكل رمزية الاسم) تزوجت وأنجبت، وعاشت وعانت فكانت حياتها سجلا لخيبات الرياض، لكنك حين تقرأ النص سترى عفاف تعبر في خلفية الصورة ولن يكون لها مساحة لتعبر، سيختار العتيق “خالد” ليكون الراوي، خالد لذي لا يتحقق ولا يموت، لا يتزوج ولا يجاهد، يختاره شاهدا على زمن شحيح، فينتخب العتيق الراوي في أعماله بحيث يكون أقل إدهاشا وأضعف حظا للبروز من بين شخصيات العمل. ولعل أغرب ملمح في شخصيات العتيق أنها تسير في خطوط متوازية، فتأثيرها وتأثرها ببعضها البعض محدود، وذلك يبدو مفهوما بالنظر لكونها شخصيات هشة. العتيق بشخصياته الهامشية التي لا تتمايز عن بعضها كثيرا، يخبرها أن المكان بشرطه السياسي الاجتماعي يسحق أناسه فلا يبقى منهم غير أشباحهم. بالتالي فاختيار العتيق لراوٍ ضعيف أو هامشي قرار فني جريء، يسعى من خلاله إلى خلق مسافة بين القارئ والشخصيات، وتشجيعه على المشاركة في عملية بناء المعنى والانغماس في الحالة، ولا أضمن لتحقيق ذلك من راوٍ مراقب، وقد يغرر بك العتيق فتعتقد أن راويه محايد تماما، لكنك لو أعدت النظر ستجد أن الراوي في نصوص العتيق هو المثقف وهذا لا يشرح فقط سبب اختيار الشخصية بل يفصح عن رؤية الكاتب لدور المثقف في مجتمعه وواجبه تجاه أداته الفنية. تحذير آخر بشأن العتيق، إن كنت عاشقا للحوارات مثلي فاسمح لي أن أختصر عليك الخيبة، لا حوارات كثيرة في أعماله، وهذه القليلة ليست عميقة، وسأزعم أن قلة الحوارات وخواءها وانبتارها الدائم وعبثيتها متعمد أيضا، فحوار مثل الدائر في قصة إذعان صغير يظهر براعة الكاتب، ولو قرأته وحده لوجدت روح حوارات القصص الساخرة الروسية، لكن شخصياته ملتزمة بشروطه، لذا فهي تترفع عن شهوة الحكي، ولم لا فالشخصيات المهزومة لا تتحاور. لعبة أخرى يقترفها العتيق، تظهر في فعله بالزمان، تدخل غابة سرده لتجد نفسك في دوامة، يبدأ من نقطة كي لا يصل. تبدأ رواية الملك الجاهلي يتقاعد بعودة الراوي إلى البيت، من أين؟ لن يخبرنا مؤقتا، سيقف ليغسل وجهه “من غبار سنوات قديمة من القلق والتعب” ثم يستسلم للصور تتناسل في ذهن الراوي يقودها هذا الدوار من لحظته الآنية، لتفسير قاله داوود في زمان غير محدد عن هذا الدوار، لمرة جاء الدوار فيها بين هاتين المرتين، ثم ينتقل من الدوار لدورة الحياة: “كل الناس كبروا أو ماتوا، ما عدا الذين لا نعرفهم. ما زالوا صغارا، كبروا واختفوا فجأة” ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن لحظة الدوار التي وصفها الراوي في الصفحة الأولى من الرواية مجتزأة زمانيا من لحظة سيعود لها في الصفحات الأخيرة، لا ليكون النص دائريا (وهذا يفعله العتيق في قصصه القصيرة) بل ليمد خيطا آخر من اللحظة، لينهي كل هذا الدوار/الدوران بـ”نومة جاهليةعظيمة” أما المكان يا صديقي فلن يكون إلا الرياض. الرياض دائما ولا مكان آخر، قبل الطفرة وبعدها وفي الجاهلية والإسلام، وفي الواقعي كما في المتخيل، فقد أنهى رواية داوود داخل روايته في الملك الجاهلي يتقاعد بالإشارة إلى هذا الملك الكندي بإشارة لطيفة حيث قال: “وقيل إنه هرب مع أسرته نحو الرومان في الشمال، وقال أحد الساخرين من الحداثيين إنه هرب للرياض واستأجر شقة في العليا” ورياض العتيق في كل أعماله مرتكية على أثافي ثلاث: * أحياء طينية قديمة نَبَض فيها القلب في زمن حُلمي موغل في القدم والدهشة. * شمال الرياض الأسمنتي المجوف، بعلاقاته الهشة وأناسه التجنبيين. * ثم التشدد الاجتماعي ذا الرداء الديني ضيفا ثقيلا على الأحداث ومواطن شرعي في العالمين، وهذا التشدد ليس له منصب محدد، ولا هيئة موحدة تميزه، وهذه نقطة لافتة في كل منتج العتيق. على الركائز الثلاث يطبخ الروائي نصوصه الطويلة والقصيرة، نصوص تحكي حالة واحدة دائمة: الملل، ملل فريد، حالة إحباط مزمنة بلا بارقة أمل، الحياة في الرياض متع صغيرة مكلفة تحت رقابة شديدة الوطأة، يقلقها أن يتنفس البشر، أن يعيشوا لحظاتهم الصغيرة (وكلمة صغيرة كلمة مفضلة جدا عند العتيق وتتكرر في عناوين أعماله وفي وصف شخصياته وفي سرد حكاياتهم. مثل إذعان صغير وأظافر صغيرة ناعمة) سأشرح، اسمح لي بأن أشرح بافتتاحية روايته الأشهر “كائن مؤجل”: “الأيام تتشابه هنا” بعد جملته الأولى سيعطينا العتيق شقّي الرياض في جملته التالية وفوقهما الضيف الثقيل/التشدد يقول: “لكن حصة المسرح أفضل من حصة الرسم” ثم يفصّل بعد ذلك شارحا ليس أنا حصة الرسم وحصة المسرح تقع في مكانين مختلفين بل زمانين مختلفين أيضا، في حصة الرسم في طفولة الراوي سيرسم فتاة وستحضر يد التشدد وتقطع عنق فتاة الرسم بعلامة ضرب، فإن اعتقد القارئ أن التمايز بين عالمي الرياض الطيني القديم والرياض الشمالي سيجعل الرياض الحديث حاضنا أفضل للموهبة فسيخيب ظنه سريعا، لأن اقتراف الإبداع هنا أيضا مرفوض، وسيغلق مسرح الشمال “مؤقتا” للصيانة. التشدد في نصوص العتيق عدو أصيل للفنون، لكنه ليس التشدد الذي اعتدت رؤيته في أغلب الأعمال السعودية فلن يأتي على جناج أيدلوجيات جاهزة، لن تسمع منه شعارات، لن يظهر في صورة “منصب ديني وثوب قصير ولحية” وهذا التشدد المتغلغل في المفاصل ليس سرا فكل شخصيات العتيق تعيه: “قالت له وهي تبتسم قاصدة استفزازه: اذهب إلى النادي الأدبي، قال لها: هذا مسجد، أو إدارة رسمية، وليس ناديا” لاحظ أن المسجد والإدارة الرسمية متعادلان موضوعيا، وكلاهما حتما ليس صديقا للفن. ما يواجهه أبطال العتيق بتجنب تشدد أصيل مثل غبار الرياض، هناك مواضعة بين أهل الرياض لا على قبول هذا التشدد فقط بل والخضوع لما يفرضه. لماذا؟ لأنه حتى ولو كانت الريح يا صديقي طارئة فالغبار من رمل هذه الأرض يرتفع ويعصف، ثم يهبط ويتماهي مع الجدران والشوارع في كمون مؤقت. وهذا التشدد الأغبر عادل عدالة اجتماعية لا مراء فيها، فعصفاته لا تمييز عندها بين أحد وأحد، وليس شق من الرياض في عرفها “أحشم” من أن تطاله، وليست حصرا على زمان بعينه. موجات الغبار تزور بيوت الطين، وتصير عمودا أحمر من تراب في وجوه الجميع، ويحصل الأمر بحذافيره في بيوت الشمال الراقية، تتكرر ذات الصورة في كائن مؤجل وفي الملك الجاهلي، وفي القصص القصيرة، بل إن الغبار بطل قصة من قصص العتيق. قد ترى في إنسان رياض العتيق ملكا غير متوج، قاطع طريق مفقود، طاقة مهدرة، كائنا مؤجلا، لكن شيئا في هذا الإنسان يجعلك تعيد قراءته مرة بعد مرة، لتجد أنه مثل نبتة صحراوية تكمن في قلب الجفاف بانتظار الحيا/الحب، ولمسة منه تحيي الخضرة وتحيي فكرة الفناء مجددا “سأعترف لها أن روحها الدافئة ضغطت على أرواحنا، ضغطت كفان ناعمتان على وجنتين صحراويتين، فتفجر الرأس ماءً وأعشابا ونخلا وذكريات ولهوا ودودا صغيرا” سرد العتيق صور سيّالة تبني الحالة، وهذا يستدعي بلا شك ثورة على مفهوم اللغة الأدبية وهو يؤكد في حواراته نفوره من لغتين: التشكيل اللغوي المبالغ فيه، واللغة الصحفية الخشبية. “كمين الحكاية” يمشي الراوي “على رصيف الشارع الصغير، ذاهبا إلى المخبز القريب ثم إلى بقال جواره. وجدت على الرصيف المظلم فكرة صغيرة ضائعة مثل قطة هائمة” هذا رجل يضحي بالحدث لصالح الحالة، وبالزمن ليلاحق صوره الشعرية المتشظية. كاتب يثق بقرائه ولا يخشى تجافيهم إن لم يقدم الوجبة السهلة.