سارة طاهر في عملها الثاني «أم الحمام»:
رواية إريترية تفتح نافذة على حياة المهمشين في أحياء الرياض.
“أم الحمام” هو الاسم الذي تسمّت به الشخصية الرئيسة في الرواية، لكونها تطعم الحمام بفتات الخبز بعد صلاة الفجر في شارعها الواقع في حي أم الحمام بمدينة الرياض، حيث أقامت بعد قدومها مهاجرة من بلدها إريتريا. حي أم الحمام الذي يقطن فيه معظم أبناء الجاليتين الإريترية والإثيوبية، ويُعرف سكانه محلياً بالأحباش أو الحبوش. هنا، يلجأ الغريب إلى أشباهه من الغرباء الذين سبقوه في الغربة. لقد جذبها مغناطيس هذا الحي، لعلها تجد فيه ما يعوضها عن غربة الأهل والبلد، لكنه بلا شك لا يشفي اغترابها الداخلي. تعمدت الكاتبة سارة طاهر (إريترية مقيمة في الرياض) إحداث هذا الالتباس في الاسم، بهدف خلق رابط عميق وإسقاط مخفي بين الواقعي والرمزي والوطني، جامعة كل هذه الأبعاد في مفردة “أم الحمام”. هذه الرواية هي الثانية للكاتبة بعد روايتها “أمي رمانة صبابة القهوة”. كلا الروايتين تسيران في نفس النسق الروائي من حيث الزمان والمكان، وتعكسان هموم أبناء الجالية الإريترية في الرياض بعد خروجهم من بلادهم كرهاً أو طوعاً. فالغربة، رغم أنها ليست خياراً محبوباً، إلا أن الخذلان يجعل البعض يلجأ إليها، بحثاً عن ملاذ ولو كان غريباً. اختارت “أم الحمام” ترك والديها في أسمرة لتحل في الرياض، بحثاً عن عمل وهروباً من عنوسة قاتلة. كانت تأمل أن تجد مكاناً يؤمن لها الكفاف من العيش، وربما تصادف زوجاً يريح آلامها ويزيل عنها وصمة الحظ العاثر الذي طاردها. رغم محاولاتها، بقيت الغائبة ولو حضرت، والحاضرة ولو غابت، لتؤدي التزاماتها. سنوات العمر مضت مع زواج متأخر وترمل مبكر، بلا ذرية. الجيران موجودون، لكنهم بلا روابط دم قوية، فتتحول إلى حالة من “عماء الوجود”، حيث لا جار يرحم ولا قريب يساعد، والجميع يطلب منها التضحية من أجلهم. أبدعت الكاتبة في تطوير شخصية “أم الحمام” بأسلوب تدريجي، من طفلة بسيطة، إلى شابة تعيسة ومنعزلة، ثم مهاجرة تعمل في المنازل، وزوجة، فأرملة، وأخيراً بائعة جائلة ونائحة ومغنية بشكل جزئي ولكن برتبة مرشدة اجتماعية، تقول موجهة كلامها لوالد هناء “لا يمكن أن ترضى أي فتاة بهذا الظلم، يجب أن تعلم بأن هناك نقطة ينتهي بها كل شيء، نقطة اللاعودة، النقطة التي ستتخلص فيها من كل خوف، لن يعود لصوتك الغاضب تأثير عليها، لن يعود لصراخك وتهديداك سبيل عليها، لن تصبر على أفعالك الظالمة، على اتهاماتك الباطلة وعلى شكوكك وخوفك وغضك الذي يعميك في كل مرة من رؤية ابنتك بحقيقتها ..” (ص165). الغربة والهوية تتناول الرواية الوطن الأصلي، والغربة، والعزلة، والاغتراب. تعكس النصوص كيف أن الهوان يتوارث عبر الأجيال. تقول خديجة إحدى بنات الجيل الثاني: “في تلك اللحظة علمت أنني ورثت هذا الشيء منكما، وحين حدث معي أمر مشابه لم أستطع الاعتراض، كما فعلت أمي مع الطبيبة، وكما يتعامل أبي مع أي موقف طارئ. حينها فقط تأكدت أن هوان الغربة يولد معنا حين نولد.” (ص69)”. الغربة التي دفعت المهاجر إلى البحث المستمر عن مستقرّ آمن، حتى لو كان عبر ركوب البحر بمخاطره، سعياً للوصول إلى “جنة أوروبا”، حيث قد يتخلص المغترب من بقايا العلاقات الأسرية التي فجرت فيها الغربة مشاعر مؤلمة ونسفت روابط عائلية، تعبر أم الحمام عن ذلك قائلة: “لم أكترث لغضبها أو حديثها، حتى أنني لم أعد أشعر بمشاعر نحوها. السنوات الطوال التي عشتها بعيدة عنهن كانت كفيلة بنسف جميع المشاعر العائلية في داخلي. منذ فرقنا الزواج المبكر، وفساتين العرس، وحفلات العقيقة، كل ذلك كان كفيلاً بتفريقنا منذ زمن بعيد.” تُعد الرواية إسقاطاً اجتماعياً على حي مغلق ومهمش مثل أم الحمام، وعلى البلد الأصلي الذي ينتظر أبناءه للعودة أقوياء، لا منكسرين. لكن الأقدار غالباً ما تدفعهم للبقاء في غربتهم المؤقتة أو الدائمة، في واقع لا مستقر كمن يعيش فوق الماء، بينما الوقت يمضي ومعه تنشأ أجيال وقصص جديدة، ويبقى المكان صامداً. (ص103) أظهرت الكاتبة إبداعاً في تحويل حي أم الحمام إلى مصدر إلهام ومعين للسرد. استطاعت إدخال القارئ إلى أزقته وزواياه، ليشعر بشخوصه وبيوته، ويسمع لغته المختلفة. لغة الرواية بسيطة وجميلة، مليئة بالصور الاجتماعية والحكايات الفرعية المرتبطة بالفكرة الرئيسة، محبوكة بحرفية ووعي. شعرت الكاتبة بالنشوة حين نجحت في تجاوز التابوهات والخطوط الحمراء، متحايلة عليها بمكر سردي ماهر، حيث استطاعت أن تكتب قصص الجالية بحرفية دون إحراج. ختاماً، قدمت “أم الحمام” صورة واقعية وقوية عن الغربة والاغتراب، وفتحت نافذة على حياة المهمشين من خلال شخصية “أم الحمام”، التي تمثل رمزاً لكل مغترب يواجه تحديات الغربة والعزلة. ---- سيرة ذاتية سارة طاهر. روائية إرترية من مواليد المملكة العربية السعودية، مقيمة في مدينة الرياض. صدر لها روايتان: - أمي صبابة القهوة (رمانة) 2021. - أم الحمام 2024.