كتبٌ رائعة جديرةٌ بالإضاءة.

1 رواية “باهيا” للكاتب البرازيلي جورج أمادو (صدرت عن دار الآداب، ونهض بترجمتها اثنان من خيرة المترجمين العرب: عفيف دمشقية، ومحمد عيتاني).. إنها ملحمة سردية آسرة تتناول الفقر والعبودية والتوق للحرية والنضال والعدالة الاجتماعية والصعلكة وأحلام المسحوقين وغناءهم ورقصهم وانتصاراتهم وخيباتهم وشغفهم والحب الذي بوسعه أن يحيل الحلم الفردي إلى نضال جمعي مؤثر على مستوى الواقع.. في كل مرة ـ حين أتذكر رواية “باهيا” ـ أتذكر بطل الرواية الفتى المسحوق “انطونيو بالدوينو” الهائم عشقًا بالجميلة “ليندينالفا”، كما أتذكر رفاقه الرائعين الذين يتقنون شؤون الصعلكة في البحر والميناء، كما يتقنون صناعة الأحلام ورقصة السامبا. 2 “السيد الرئيس” رواية المبدع الكبير استورياس قرأتها في الثمانينات مُذْ كنتُ طالبًا في الجامعة، ثم أعدتُ قراءتها مؤخرًا حين أعادت مؤسسة “أروقة” في القاهرة طباعتها مترجمةً بحبر الصديق جمال الجلاصي.. إنها هي الأخرى ملحمة مليئة بالوقائع الأليمة والمصائر المرّة والعذابات العريضة وأنين البشر، يمكن تلخيصها في كونها روايةً ممعنةً في “هجاء الديكتاتورية” في بلدان أمريكا اللاتينية، وآفاقها تستوحي رعبًا لا مثيل له حيث السطوة الدامية التي فرضها على المجتمع ـ ذات مرحلة ـ جنرالاتُ تلك البلدان. 3 أراد الروائي الإرجنتيني إرنستو ساباتو “كتابة قصة رسام أصيب بالجنون لأنه لم يتمكن من التواصل مع أحد”، فكتب روايته الفاتنة “النفق”، قرأتها بمحبةٍ عالية، وإنني أضعها في أفقِ الرواياتِ الجميلةِ التي لا تُنسى. إنّ انتفاءَ التواصلِ مع الآخرين تستحيلُ معه الحياةُ نفقًا معتمًا مؤثثًا بضراوةِ الوحدة وانسداد الأفق مما يفضي إلى هواجس القتل، بل القتل ذاته.. الرواية مليئة بالثقافة المعنية بالفنون التشكيلية، والروائي ساباتو كان مصابًا بالتوحد، لم يتكلم إلا حين بلغ التاسعة من عمره، ومع هذا حصد شهادة الدكتوراة في الفيزياء وأنجز عددًا من الروايات المدهشة ونال شهرةً واسعة بوصفه كاتبًا مبدعًا. 4 من الكتب المهمة التي قرأتها وسلبَتْ لُبِّي كتاب بعنوان “لهب شمعة” لغاستون باشلار - صاحب كتاب “جماليات المكان”- هذا الكتاب العميق، الجميل، صدر عن “ أزمنة “ في عمّان، وقامت بأعباء ترجمته مي عبدالكريم محمود.. باشلار هنا يتتبع عميقًا مستويات اللون ودلالاته في لهب الشمعة ويعمل - في تحليله المذهل هذا - على استدعاء رؤى ومقولات ونصوص فلسفية وشعرية وأعمال إبداعية، مشيرًا في تحليله العميق هذا إلى آيات من القرآن الكريم. 5 هذا الكتاب العميق حين تقرؤه برويةٍ وعلى مهلٍ يمنحكَ فرصة أن تتغير فكرًا وسلوكًا، وأن تنظر إلى الحياة نظرةً تختلف كثيرًا عن تلك التي كنتَ تحملها قبلًا.. إنه كتاب نيتشه “أفول الأصنام” الذي يحطّمُ الكثير من تلك القناعات التي كنّا نظنها بداهاتٍ لا تمس، أو حقائق لا تُنْتَقد. 6 في الروايات تشغلني دائمًا مصائر البشر.. مثلاً “غريغوري سامسا” الشخصية المحورية في رواية “المسخ” لكافكا، ظلَّ يؤرقني مصيره منذ قراءة تلك الرواية، في وقت مبكر، وظللت متلبسًا بذلك المصير حتى اللحظة.. أن يستيقظ الإنسان صباحًا ليجد نفسه محض “حشرة” أمر مرعب للغاية.. والأمر الأكثر رعبًا أن يظلَّ متشاغلاً بالذهاب إلى الوظيفةِ التي لم يغبْ عنها يومًا! ملاحظة: المترجمة المغربية ربيعة حمو - التي تتقن أكثر من خمس لغات - ترى أن “ المسخ “ ترجمةٌ خاطئة، وأنَّ الترجمة الأصح هي “المتحول”. 7 الشاعر الجميل بسام حجار أبدع كثيرًا وهو ينقل إلى العربية رواية “سرب طيور بيضاء”، رائعة الروائي الياباني ياسوناري كواباتا -الحاصل على جائزة نوبل في العام 1968- إنها حقًّا من الروايات الجميلة التي شغفت بها.. وعلى الرغم من تدفق الكثير من السنوات تحت جسر الزمن إلا أنني ما زلت أتذكر الآنسة الجميلة “إينامورا” وجلستها الفاتنة وهي تصنع الشاي على الطريقة اليابانية العريقة، أتذكر أيضًا “كيكوجي” الذي كانت تتنازعه إشراقات الروح وغوايات الجسد.. الرواية الصادرة عن “المركز الثقافي العربي” جاءت في 160 صفحة فقط. 8 “ضبط الرعاع” كتابٌ قيمٌ لنعوم تشومسكي -عالم اللسانيات والمفكر النزيه الشجاع الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم ـ ينتقد فيه بلا مواربة وبحدّةٍ عالية “أمريكا” رغم كونه أمريكيًّا، كما ينتقد “الكيان اللقيط” بالحدّةِ العاليةِ ذاتِها، رغم كونه يهوديًّا ..هذا الرجل المنصف المنحاز علنًا للقضية الفلسطينية ولجملةٍ من القضايا العربية ينتقد في كتابه هذا - وهو حوار طويل وعميق أجراه معه ديفيد بارساميان وترجمه هيثم حجازي - بربرية الصهاينة ودمويتهم و انحياز أمريكا للمحتلين الذين يعتبرهم - من دون مواربة - “رعاعًا” ينبغي على العالم ضبطهم. أخيرا ومن باب الطرافة المؤلمة أتذكر أن أحد الأصدقاء تساءل قائلًا: ترى، لو قابلَ أحدُ “المتشددين” إياهم السيد تشومسكي صدفةً، وعلم أنه يهوديٌّ، ماذا كان سيفعل به؟ ردَّ عليه صديقٌ آخر: سيقطع عنقه بدمٍ بارد، ولسوف يحتفظ برأسه في الثلاجة، كما فعلوها مع أحدهم ذات مرة. 9 “عربي، هل قلت عربي؟”.. كتاب مهم جدًّا، أذكر أنني اشتريته ذات مساء من معرض الكتاب بجدة، ذلك الذي كان مقامًا في “الجمجوم”، ذلك “المول” المطل على أناقة البحر.. البائع عندما رأى الكتب التي اشتريتها منه خَمَّنَ من أيِّ طينةٍ من القراء أنا؛ لذا سرَّبَهُ إليَّ بهدوءٍ من تحت الطاولة وهو يقولُ هامسًا كنسمةٍ حذرة: “هذا الكتاب سوف يروق لك”.. لست أدري كم دفعت فيه ولستُ نادمًا على المبلغ المدفوع؛ لأنني حقًّا فتنتُ به وهذا هو الأهم.. بعد قراءته كتبتُ عنه مقالًا طويلًا نشرته على صفحة كاملة في الملحق الثقافي في “عكاظ الأسبوعية”.. على أي حال، هذا الكتاب يحمل مجموعة كبيرة من الآراء لمفكرين وكتاب ومبدعين غربيين قيلت فينا نحن العرب والمسلمين.. رأيٌ لأحدهم قد يجعلك تشتعل غضبًا ولربما دفعك هذا إلى إحراق الكتاب برمته ..ورأيٌ لآخر قد يجعلك تنتشي طربًا لدرجة التحليق. 10 الألباني إسماعيل كاداريه (88 سنة)، الذي رحلَ عن عالمنا مؤخرًا، يُوصَفُ بأنه “آخر الكلاسيكيين الكبار”، وهو حاصل على جائزة بوكر الدولية في العام 2005، ولكنه لم يحصل على نوبل التي انتظرها طويلًا.. كاداريه أبدعَ روايته الشهيرة “من أعاد دورونتين؟” التي صدرت في العربية ببيروت في العام 1989، مترجمةً بحبر أنطوان أبوزيد ..هذه الرواية نالت ذيوعًا كبيرًا في عالمنا العربي وقت صدورها ، ربما يعود ذلك إلى جودة الترجمة وإلى كونها صدرَتْ عن دارِ نشرٍ عريقةٍ هي دار الآداب ، وربما لأنَّ السارد البارع كاداريه كان مرَّشحًا دائمًا لجائزة نوبل ، وربما بسبب اتكاء الكاتب في منجزه الروائي هذا على الأسطورة التي كان الوسط الثقافي العربي شغوفًا بها إلى درجة الهوس ..على أي حال ، أذكرُ أنني قرأتُ هذه الرواية في التسعينات، وأذكر أنني اشتريتُها من معرض القاهرة في شتاء 1991، كما قرأتُ له باكرًا روايتيه الجميلتين “الجسر” و”مدينة الحجر” .. أخيرًا أقول: إسماعيل كاداريه أصدر أكثر من خمسين كتابًا بالألبانية، وتُرجمت له روايات كثيرة إلى اللغات العالمية. وأكثر من عشر روايات إلى العربية، هي: “جنرال الجيش الميت”، و”الحصن” التي صدرت في دمشق في 1986 كما صدرت في بيروت باسم آخر هو “طبول المطر “ في 1990 ، و”من أعاد دورونتين؟”، و”مدينة الحجر” ، و”الوحش” ، و”قصر الأحلام” ، و”الجسر” ، و”العاشق والطاغية” ، و “الحصار” ، و “نيسان المكسور”. 11 “ميميد الناحل” روايةٌ للسارد التركي الكردي الكبير يشار كمال - التي ترجمت إلى العديد من اللغات - هي إحدى أهم وأجمل الروايات التي قرأتها.. مدهشةٌ، وزاخرةٌ بحياةِ بشرٍ مصائرهم متأرجحةٌ بين المرارة والأسى، المكابدة والحب، العذاب والعذوبة.. فضلًا عن كونها نصًّا فاتنًا في مديح المكان وناسه الطيبين الذين دأبوا على مقاومة الظلم ومقارعة الاستبداد.. إنها روايته الأولى التي ظهرت للنور في العام 1955، وفي العام 1956حصلت على “جائزة الرواية” في تركيا، أما النسخة العربية الأولى فقد صدرت في العام 1981 عن دار الفارابي ببيروت بحبر إحسان سركيس، بلغةٍ صافيةٍ تقطرُ جمالًا وشعرًا، كما صدرت الطبعة الثانية عن الدار نفسها قبل عامين إن لم تخذلني هذه الذاكرة المخاتلة. على أيِّ حال هذه الرواية الممتعة تستحق القراءة أكثر من مرة وهي دائمًا جديرة بالتنويه والإضاءة. بقي أن أشير إلى أهم ما جاء في سيرته المليئة: يشار كمال عملَ راعيًا في صباه، وهو الذي علّم نفسه بنفسه. 12 تُعَدُّ “جسر على نهر درينا” لليوغسلافي إيفو أندرِتش من أجملِ الرواياتِ التي تحتفي بالعلاقات الإنسانية بين المنتمين لأديانٍ ومذاهبَ مختلفةٍ.. كتبها أندريتش بحبر دمه، فاضحًا تجاوزات الأتراك غير الإنسانية إبَّان بناء جسر على نهر درينا، فاضحًا كذلك ثقافةً لا تنتجٌ غيرَ “الخوازيق”.. ترجمَ هذه الروايةَ البديعةَ - التي قرأتُها منذ سنوات - الفاتنُ الكبير سامي الدروبي إذْ تحسُّ وأنت تقرأ أنَّ الرواية لم تهاجرْ من لغةٍ إلى أخرى، بل كأنَّها كُتِبَتْ في الأصل بلغةٍ عربيةٍ مقمرة. 13 “الجسد”، روايةٌ ممتعةٌ بسردها العذب، مدهشةٌ بفكرتها الاستثنائية المغايرة للأفكار المستهلكة خصوصًا في السرد العربي.. إنها ـ عبر طرحٍ فلسفيٍّ يغرفُ من خيالٍ واسع ـ تعلي من قيمةِ الجسد الذي كان من يتناوله يستحيلُ محطَّ ازدراءٍ في الفنِّ والحياة، ومحطَّ سخطٍ من أولئك المتوهمين بأنهم القيّمون على نضارةِ الأخلاق.. لقد استطاع المدهش حنيف قريشي (كاتب بريطاني من أصل باكستاني) أنْ يقدّم لنا عملًا إبداعيًا متألقًا بوسعه أن يحيا طويلًا في الذاكرةِ والزمن. الرواية صادرة عن دار “ورد” بدمشق، نهض بترجمتها إلى العربية الصديق خالد الجبيلي بكفاءة عالية.