ما بين النزيف والبحر.

نحن -بصفتنا قراء- لا نعلم حقيقة المعايير التي يتم وفقا لها تمجيد عمل روائي دون آخر لا يقل عنه وربما يفوقه فكرة وثراء لغويا، خطر لي هذا الأمر وأنا أقارن داخل (مخي الذي مل) بين رواية “الشيخ والبحر” لآرنست همينغواي ورواية “نزيف الحجر” لإبراهيم الكوني، حيث الرابط المشترك بينهما هو أن الحبكة المهمة للأحداث تدور في فضاء فارغ من البشر سوى البطل مع كائنات أخرى هي القارب والأسماك مع “الشيخ” والوعول والجبال في “النزيف”. ولأنني ومنذ سنوات طويلة قد قرأت كثيرا عن رائعة آرنست (كما يسميها البعض) فقد حاولت الحصول عليها ونجحت لكن كان الأمر أشيه بخيبة كبيرة ولأكون منصفة فربما كانت الترجمة داعما لهذه الخيبة فلا اللغة تحفل بذاك الموج المدهش المتتابع من الاستعارات والكنايات التي تجذبني ولا الحدث كان يحمل شيئا من الإيقاع الحماسي الذي يدفعني للمواصلة.. قضيت وقتا منهكا في متابعة يد الصياد والحبل الذي يجر به السمكة الضخمة خلف قاربه وخرجت بعدها بفائدتين، الأولى: احذر أن تنذر أيامك لحلم يلتهمه غيرك قبل أن تصل إليه، والثانية: احذر أن تجهد نفسك في الحصول على عمل يمجده الآخرون كثيرا. أما في رواية إبراهيم الكوني المغمورة عند كثيرين فقد كان الأمر مختلفا.. أنت في فضاء شاسع من الرمال والأساطير والذكريات.. تسابق الوعول في السفح فتخطفك اللغة إلى القمم، يجهدك الحماس كي تخمن النهايات فتجد نفسك تائهاً مرة أخرى تركض كي لاتصل لأن الوصول يعني أن تفارقك عبقرية الكاتب عند آخر صفحة، بعد رحلة مدهشة مع بطل وحيد تصنع الأساطير حدسه وتملأ المتاهات ثقوب روحه. صياد حولته العزلة إلى بطل وصنعت منه الليالي الموحشة الطويلة دليلا تعرف قدماه الدروب، ولكن يخونه قلبه. وبرغم كل هذا الجمال والتكامل في حجر إبراهيم لا يزال شيخ أرنست في الصدارة.