تهتم معظم المجتمعات بتراثها الشعبي، الشفوي والمكتوب، حيث يعتبر أحد مداخل ذاكرة الشعوب ومعرفة تاريخها، ومن روافد هذا التراث، الحكاية والشعر والمثال. والإنسان لا ينفك عن هذا التراث فهو يرثه من والديه واجداده من خلال القص والحكي والاستشهادات اليومية في أحيان كثيرة، لذا لا غرابة عندما نرى شباب في العشرينات يكون محتواهم عبر شبكات التواصل مستمد من التراث، وفي الغالب هم يعيدون ما سمعوه ممن حولهم، بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية الرسمية المهتمة بهذا الجانب. والمتتبع لهذه النوافذ باختلافها يجد تركيزا على المرأة، ونقل ما يدور في نفسها وعالمها، والمراقب ولو بشكل عشوائي سيجد أن التفاعل مع مواضيع النساء يتفوق على بقية المواضيع ، ولكن المؤسف أن معظم المواضيع المطروحة والتي يؤكد أصحابها أنها من التراث مسيئة للمرأة وتُظهرها بصور مشوهة، فهي الزوجة المادية التي ضيقت حياة زوجها، أو ناكرة لمعروفه، حيث يعتبر البعض أن التزام الرجل بواجباته معروف في رقبة الزوجة، أو مخربة علاقات الرحم بين الأخوة أو الإبن ووالديه، أو زوجة أب شرسة ، أو كائن خبيث وغبي لا يؤتمن على سر، وغيرها من القصص والأمثلة المهينة للأنثى، ومن سوء الوضع أن هذه الحكايات والأمثلة التي تدين المرأة تجدها على ألسنة من يتسيدون المشهد الاجتماعي والثقافي كمتحدثين عن شؤون الأسرة والحياة الزوجية، وعندما يستشهدون بهذه النقائص تكون بنبرة التأكيد الذي لا خلاف فيه !! القصص والأمثلة والقصائد التي تقلل من قيمة الإنسان أياً كان نوعه تحتاج للمزاحمة بنقيضها ومن التراث أيضاً، حتى لا نظلم التراث ونعتقد أنه يتحيز ضد المرأة مما يمنع المهتمين التنويرين العاملين في مجال الإعلام والفن خاصة من الاستعانة به في أعمالهم، فعلينا ألا ننسى أنها أقوال بشر لا نعرف صحتها من عدمها، أو سبب قولها وكيف تم برمجتها في العقل الجمعي بأنها مسيئة للمرأة، وبحكم أن هذه الروافد التراثية موجودة في أغلب الشعوب، فقد تجد بعض الأمثلة تستخدم حتى من غير أهل البلد ، لخفة المثل على اللسان وكثرة تداوله، فمن الأمثلة الشائعة المسيئة للمرأة، المثل المصري ( اقلب القدر على فمها تطلع البنت لأمها ) ومع أنها في العقل الجمعي تُقال للتقليل من الأنثى إلا أن سبب قولها الأصلي ليس فيه أي إهانة، فالرواية تقول: “أنه خلال العصر العثماني لم يكن مسموح للبنات بالصعود فوق سطح المنزل، وعندما تريد الأم نشر الغسيل وتحتاج إلى ابنتها لمساعدتها، تأخذ معها (قدرة فول فارغة) وتقلبها على ظهرها، وتقرع عليها بيديها لإحداث صوت مرتفع لتفهم الابنة أن أمها تحتاج إلى مساعدتها فوق السطح، وذلك حتى تتجنب أن تناديها فيسمع الجيران صوتها” . وتلاحظ أن الأمر أصبح يتعلق بطريقة التفكير، فقد تعذر المراهق بالاستشهادات المسيئة فهو ينقل ما سمع، ولكن كيف تبرر لمن يُصنف في المجتمع بأنه متعلم ومثقف ومؤهل لتوجيه النصائح للعامة حينما يتحدث بتفكير المراهق؟! بسبب أن ميوله النفسية التي تربى عليها ضد المرأة غيبت عقله النقدي الذي يفترض أنه يعمل طوال الوقت أو على أقل تقدير عند مخاطبة الجمهور؟! أو بسبب سعيه للإثارة والجدل ولفت النظر، فالتقليل من المرأة موضوع جاذب ومثير! وتصل المشكلة أقصاها عندما يستعين من يتحدثون عن أمور الأسرة بأمثال وقصص التراث المسيئة كطرق لإدارة الحياة الزوجية، فتكون قصة الأم التي أوصت ابنها بإخفاء أسراره وأمواله عن زوجته هي مرجعيتهم في ثبات أعمدة المنزل! وقد يكون سرد بعض القصص والأمثال التراثية من باب الإضحاك ، وفي هذا الجانب علينا أن نقرأ ولو قليلاً عن أثر النكتة في تشكيل الفكر العام، وهناك كتب جيدة جدا في هذا الجانب، فالنكتة من أكثر عوامل نشر الاحتقار او التحريض دون أن تشعر فأنت تتلقاها وأنت تضحك، ومن زاوية (ترانا نمزح) استبيحت كثير من الأمور، وانتهكت كثير من المشاعر الإنسانية وتم تجريح فئات مختلفة من البشر، وهناك ناس تراهم ذوي معرفة ودراية، ولكن عندما تأتي نقطة النكتة يكونون من أقبح وأغبى الناس وكون مرجعهم الأخلاقي (ترانا نمزح) فهذا كافي لرمي كل نقيصة في الناس. من أكثر العبارات التي تُردد للحفاظ على التراث هو احتواءه على قيم وآداب لابد أن يتعرف عليها الأجيال، إن أتفقنا على هذا السبب مع تحفظي عليه، فالقيم والآداب موجودة في كل زمان ونراها في كل الأجيال دون اللجوء للتراث، فلابد أن يتوافق ما يطرح مع الهدف، بينما الذي نراه عكس ذلك، بل هو يهدم القيم واحترام النساء وبعض الفئات، وكونه موروث ويُعزز بعبارات (قال أهلنا الأولين وهم أهل علم ومعرفة) فهنا ارتفع عن مستوى الخطأ والانتقاد والنقد، وغاب العقل الناقد بشكل مفجع، ولا ننكر أو نتعالى على الصورة الذهنية التي كرستها التوجيهات الدينية المتشددة خلال عشرات السنوات الماضية عن المرأة تحديداً، فعندما تتعاضد أفكار التشدد مع قصص وأمثلة تراثية فهي تشكل تكتل فكري صلب داخل العقل التابع سواء رجل أو أنثى، فلن تستطيع الشهادات والكتب تفتيت هذا التكتل ويحتاج لسنوات من المنطق وتفعيل قدرات العقل والأهم هو السعي للحد من توسع هذه الأفكار، لذا علينا أن نصحح المفاهيم فالقصة الشعبية وأخواتها من التراث تقال من أجل الاستئناس ومعرفة أحوال الأزمان والفترات، وكيف كانت تدار الحياة . وقد اطلعت على عدد من آراء أساتذة الأدب الشعبي في العالم العربي لمعرفة رأيهم في هذا المأزق ووجدت الأغلبية يدورن حول عدة نقاط منها: أن الكثير يتحدث عن الأدب أو القص الشعبي دون معرفة، ولكن يأخذ ما يشاع وما يتردد، فهناك من النصوص التي تقلل من شأن الرجل أيضاً ولكن تم تجاهلها حتى أصبحت شبه منسية، وهناك نصوص تعلي من شأن الرجل والمرأة على حد سواء وأيضاً تعرضت للتجاهل، حتى أن من يسمون أنفسهم باحثين في الأدب الشعبي لا يلمسون منه إلا السطح، فالإنسان يسير خلف هواه حتى في مسألة التعلم والقراءة، إن كان له تحيزات قوية، فهي تقوده لما يعزز تحيزاته، بعكس الدارس وهو محايد، أو من يعمل مع عقل ناقد متفحص وليس ناقل فقط. وأكد خبير التراث المصري الدكتور عبدالحميد حواس: “الظاهر على سطح القصص والحكايات الشعبية ان المسيطر والمهيمن هو صوت الرجل، وأن المرأة ليس عليها سوى التضحية من أجله، لكن المتعمق في بنية وهيكل هذه القصص سيجد الكثير المخالف للسائد”. ولن نخدع أنفسنا ونتجاهل أن الاستهانة بالمرأة والنظرة لها كتابع للرجل هو ما جعل النقل عن ما يعزز قيمتها نادر حتى لو القائل رجل، وفي الغالب أن من يثني على المرأة ويحترم وجودها هم رجال مستنيرون موجودين في كل زمان، فالمرأة على مر العصور تم تخويفها إن هي أعلنت وعبرت عن حسها الأنثوي، وهذا ما غيب صوتها في روافد التراث عدا ما يكون في مدح محارمها أو ما ينساق مع رضا المجتمع، ويحكى عن تقية أم علي (505-579هـ) أديبة وشاعرة، وهي ابنة أبو الفرج غيث بن علي (خطيب مدينة صور وهو من كبار النحاة والقراء) أنها مدحت الأمير المظفر بقصيدة بدأتها بوصف مجالس الأنس كما كان المعتاد لدي شعراء عصرها فأعجب بها الأمير، ولكنه تبسط مع بعض خاصته فقال: لا شك أن الشيخة تعرف هذه المجالس من صباها فوصفتها هذا الوصف البديع! وطارت الكلمة إلى الشاعرة الحصيفة، فغضبت لنفسها غضباً مهذباً مفحماً، فأنشأت قصيدة حربية تصف فيها حلبة الهول واصطدام الأسنة، واشتجار الرماح وصفاً رائع المنحي جيد الصورة، ثم تقدمت بها إلي الأمير المظفر قائلة في أدب جمّ: إن علمي بمجالس الأنس كعلمي بحلبات القتال، فأطرق الأمير معتذراً. كل ما نُقل يصفها بالأدب الجم، وغضبت غضباً مهذباً؛ كل هذه العبارات هي ما يود الناقل أن تتصف بها كل أنثى حتى لو لم يكن هذا ما حدث فعلاً، فمن تخرج عن الأدب والتهذيب حتى في الدفاع عن نفسها قد ينولها من الانتقاص والتشويه ما يجعلها عارا على نفسها وأهلها، فالغضب وأخذ الحق بالقوة صفة وحق ذكوري، واللين والضعف صفات أنثوية وبقت هذه الشرطية حتى اليوم، بل تزداد تشددا وانغلاقا مع مرور السنين. وقصة الشاعرة موضي الدهلاوية التي وصفت شوقها لزوجها الذي يغيب عنها في الحروب، وتناقل الناس قصيدتها مما أشعر زوجها بالخزي والنقص، فما كان منه إلا أن طلقها، فكيف لامرأة أن تعلن شوقها لرجل حتى وإن كان زوجها!! ليس لنا حل الا بالمزاحمة، مزاحمة هذه الأمثلة والقصص التي تقلل وتهين المرأة بقصص وأمثلة أيضاً تراثية، من خلال الغوص في التراث دون الاكتفاء بالسطح والمنتشر، ومع مرور الوقت ستصبح هي السائدة، فقد يحق للكبار والصغار الاستشهاد بالقصص المسيئة طالما هي المتسيدة والمترددة في كل برنامج شعبي أو منشور، ما لم يتوفر البديل في التعاطي الاعلامي وبقى حبيس الكتب او الشفاه القليلة التي تتحفظ أحياناً على نقله وترديده، ولن نتجاهل الموقف الذهني في التعامل مع النساء، بما فيهن النساء أنفسهن، ويكفي المقولة المغلوطة (النساء ضد النساء) التي أصبحت شبه موروث في تناقلها ، فليس من الطبيعة البشرية أن يكون نوع معين يقف مع بعضه طوال الطريق وفي كل شيء، فلو أخذنا هذه المقولة على الرجال سنجدها تتطابق أيضاً، فالرجال ضد الرجال، فهم لا يتفقون في كل الآراء بل على العكس حروبهم فيما بينهم طاحنه أكثر من النساء، ومع هذا لم يصدر في المشهد العام عبارة تدين هذا التصرف، لكن المؤسف أن المرأة هي حارسة التراث وهي التي تنقل ما يسيء لها ولبنات جنسها وتقصه على أبناءها وأحفادها عندما غابت عنها قيمتها كإنسان. وفي هذا الصدد أتذكر التجربة اليابانية الرائعة في رصد وإعادة إنتاج الحكايات القديمة من العالم خلال مسلسل الأطفال الكرتوني (حكايات عالمية) الذي يروي في كل حلقة قصة عالمية من قصص شعوب العالم، أنتجته إحدى الشركات اليابانية خلال الفترة (1976-1977) وقد أعيد إنتاجه بشكل رائع عن طريق الدبلجة إلى عدة لغات ومنها اللغة العربية. فمثل هذا العمل هو نموذج لسرد القصص والحكايات الشعبية التي تعزز قيمة الإنسان وتحترم وجوده، ورغم أن العمل كان للأطفال، ولكن جودة المادة والتنفيذ جعله محل متابعة وإعجاب كل الأعمار والفئات، ويكفي أنه إلى اليوم شارة البداية تُردد من كل الجنسيات العربية والأعمار. ونحن نستطيع اليوم مع النهضة التي نعيشها في كل المجالات، أن تكون البصمة القادمة في هذا الجانب من تنفيذنا.