فيلم Utama 2022..

ملحمة بوليفية؛ حكايات الجدب والانتظار

سيهطل المطر قريبا الربيع يلوح في الأفق، ولا بد أن يثمر الانتظار اخضرارا ونماء. هكذا يجسد الزوجان الوحيدان في فيلم (Utama) البوليفي الصبر والصمود والقدرة على التسلح بالأمل رغم كل المؤشرات التي توحي باليأس. يصور الفيلم قدرة الأمل الكبيرة على خلق قوة داخلية تمدنا بالطاقة للاستمرار والثبات، مع أن التماهي في الحلم بدون يقين قد يقودنا إلى النهاية. الفيلم للمخرج البوليفي أليخاندرو لوايزا غريسي (Alejandro Loayza Grisi) وهو تجربته الإخراجية الأولى لفيلم طويل، يتقاطع فيه الإنسان بعاداته وطباعه ومخاوفه، بالطبيعة وتقلباتها. في الفيلم نرى الحياة اليومية لزوجين مسنين في السهول الصحراوية البوليفية القاحلة، مساحة بصرية شاسعة لأرض جدباء تحيط بها جبال الأنديز مع إطلالة لضوء الشمس من خلف القمم، بالرغم من كل هذا الاتساع والرحابة إلا أنها توحي بالعزلة والانزواء عن العالم. أكثر ما يجذب حواس المشاهد منذ اللحظات الأولى هو القدرة على نقل صور الحياة اليومية في إطارات بديعة وكأنها لوحات فنية، مشهد تناول الإفطار، قطيع اللاما المزين بشرائط زهرية، الملابس التقليدية النسائية، مشاهد غزل الصوف، الأحجار الصغيرة الجميلة التي يهديها الزوج لزوجته، انعكاس الملامح التي نحتها الزمن في الماء والجدول الصغير الممتد في يباس الأرض. نسر الكندور تظهر في الفيلم قيم الارتباط بالأرض ورفض التمدن، ويتم تسليط الضوء على الاختلاف الثقافي بين الأجيال. حين يحضر حفيدهم من المدينة بهاتفه المحمول وسماعة الأذنين، يستقبله الجد بطريقة مرتابة، لأنه يخشى أن يطلب منهم المغادرة برفقته. لا يمكنه تقبل الشعور بالعجز والذهاب إلى مكان لا ينتمي إليه،” ما لذي سنفعله هناك؟ نتسول من والدك؟ سنبقى هنا مهما كلفنا الأمر”. يأخذ حفيده في رحلته اليومية لرعي القطيع، يجلس معه في أعلى التل ويحدثه عن قدسية الأرض، عن الولاء لترابها. وعن الإيمان بدورة الحياة وألم اجتثاث الجذور والعجز عن تقبل التغيير الذي لا يشبهنا. يحدثه عن نسر كندور الأنديز العملاق، الطائر المهيب الذي يرفض أن يتقبل ضعفه. “هل تعرف كيف يموت نسر الكندور؟ عندما يدرك بأنه قد شاخ وأصبح بلا فائدة ولم يعد قادرا على الطيران، يصعد لأعلى قمة في الجبل ويلصق جناحيه للخلف ويضم ساقيه لجسده ويلقي بنفسه على الصخور فيموت مباشرة. ومنذ هذه اللحظة تبدأ دورة جديدة للحياة!” رحلة الخلاص بسبب الجفاف وطول انتظار الأمطار، يقرر أهالي القرية الانطلاق في مشهد سريالي برحلة إلى أعالي الجبال لإحضار الجليد وتذويبه وكأنهم في رحلة مقدسة للخلاص، يحثون الخطى في الصعود إلى القمم التي كلما اقتربوا منها ازدادت بُعداً، وكلما وصلوا إلى إحداها وجدوا أن الجليد قد ذاب بالفعل، ولكن الأمل يمدهم بالطاقة لإكمال المسير. فيستطيعون الوصول أخيرا. يعرض الفيلم مشهد احتفالي بوليفي تقليدي حين يقيم أهل القرية اجتماع بهيج يمارسون فيه طقوسهم التي تظهر امتنانهم بتقديم أحد حيوانات اللاما كقربان. التعبير بالصمت مع استمرار الجدب، وصعوبة توفير المياه. غادر الجميع وبقي الزوجين يتأملان الأرض المقفرة المتشققة تحتهما وكأن جذورهما عصيَة على الاقتلاع. هذا المكان الذي يوحدهما، ويعزز ارتباطهما العاطفي. وكأن لسان حالهما يردد بيت المهذب بن الزبير: “بأيِّ بلادٍ غير أرضي أخَيِّمُ وأىِّ أُناسٍ غير أهلي أُيَمِّمُ” هنا تتجسد قصة حبهما بدون إسراف في إظهار المشاعر أو التعبير بالكلمات، يظهر ذلك في مشهد إصرار الحفيد دفع جدته للمغادرة معه إلا أنها بقيت مع زوجها. حب عميق يختبئ خلف الصمت، يظهر في عدم قدرتها على التخلي عن بعضهما البعض. ثمة ارتباط وثيق بينهما لكنه لا يظهر في الحوارات ولا الإيماءات. مع ذلك يستطيع الفيلم أن يحدث تأثيرا في المشاعر لا بالحركة أو قوة الحوار أو البراعة في استخدام التقنيات البصرية والصوتية، بل بالسكون والسرد البصري البطيء. تسيطر الألوان الترابية على معظم لوحات الفيلم مما يزيد من عمق شعورنا بالمكان الهادئ وانغماسنا في الحالة العاطفية لأبطاله. كما تعتبر أصوات الرياح، الماء، الحيوانات، ووقع الخطوات على الأرض الجافة إضافة فنية غنية للتجربة الحسية للمشاهد ومساحة للتأمل والاستغراق في الطبيعة والإحساس بها. فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان صن دانس السينمائي ((Sundance Film Festivalفي الولايات المتحدة الأميركية. بالإضافة إلى 28 جائزة أخرى في عدة مهرجانات عالمية كأفضل فيلم، إخراج، وسينماتوغرافي، وموسيقى، وغيرها.