في ديوان «ما عاد في العمر ما يكفي لقسوتهم» للشاعر عبد الله السفياني..
صِراعُ الذَّات والأحزَان.
القصِيدة هُوية الشَّاعر، يلجأُ إليها حِين يفرُّ من العَالم، إذ كُلما أظلَم، وازدادَ قتامَة؛ اتَّجه ناحيتَها، متكئًا على مخزونٍ مجازيٍّ، عبَّر من خِلاله عن أحزانٍ وأوجاعٍ؛ ملأَت روحَه، واستهلكَت جسَده، إلى أنْ غدَا همُّه؛ الحفاظَ على أصدِقائه، وتقويةَ ارتباطِه بعالمِه، وحِين فشِل! احتضنتهُ “الحبيبة”، وحاولَت إطفاءَ “لهيب النار” المستعرِ بداخلِه؛ تهدئةً لـ”قلقـ”ـه، وعلاجاً لـ”جِراحـ”ـه، ليبقَى “الحزن” علَى ما مضَى؛ شعوراً مرًّا، يجتاحُه كلَّ حِين. تتكرَّر ثيمةُ الحُزن في دِيوان (ما عاد في العمر ما يكفي لقسوتهم)، للشَّاعر عبدِ الله السفياني؛ لتشِير إلى اضطِراب الذَّات، في مُقاربة موضوعِ الصَّداقة والصَّديق، حيثُ صرختُها تأتِي أقربَ للتوسُّل، وطلبِ العَون “يا سيدي الحزن”؛ لكَونها صرخةَ ألمٍ، ومُعاناة، وصِراع مستمرٍّ باستمرارِ الأصدِقاء، وكَلماتهم الجارحَة؛ إذ حِينما تتباعدُ الأفكَار، وتصبحُ خِلافات “نحن الذين أهانتنا صراحتنا، وصار يجرحنا من حزننا الماء”؛ تبتعدُ العلاقاتُ عن التلقائيَّة، والطبيعيَّة؛ لتأخذَ مسَار القطِيعة، والافتِراق: “وهل أنت إلا صراعٌ قديمٌ على فكرتين سماءٌ إلى سدرة المنتهى وأرضٌ محاصرةٌ بالألم!” يحضرُ السَّفر الداخِلي كَعلاجٍ لآلامِ الرُّوح، وأحزانِها، حيثُ الضَّياع، والتَّيه، والهربُ من الواقِع إلى المجَاز؛ سبيلٌ لعودةِ السَّكينة، والهُدوء، فمن خِلال القصيدَة؛ يستطِيع البوحَ بالحقِيقَة، والتَّصريح بما لا يجرؤُ معَ الأصدِقاء: “ومن قلق المجاز أفاق يوماً وقد وجد الحقيقةَ لا تحيدُ ويسكبُ في سنابله المعاني ولكنَّ السنابلَ... لا تريدُ!” ... “سفينته من الوهم المُعنّى طريدٌ، من يضمك يا طريدُ!؟” يمتدُّ السَّفر، ويزدادُ بازديادِ البَوح، وارتباكِ المشَاعر، وتناقُضِها، حتَّى يُدخِل الرُّوح “متاهَات” الحَيرة، والـ”شتات”، وكلَّما أوغلَ؛ تعاظَم همُّه، وغدَا علاجُه “الوحِيدُ”؛ عودةً إلى الماضِي، واستدعاءً للتُّراث، بدءاً من “جيران اللِّوى”، و”ما لم يقله عمرو بن كلثوم”، وليسَ انتهاءً بـ”زرياب”، و”عرقوب”، فينتقلُ من الذَّات، إلى “الوطن”؛ حيثُ التُّراث هُوية، وانتمَاء: “هويتُنا حروفٌ عابراتٌ وهل عرف المقيمُ العابرينا؟ دموع اليأس تضحك للمرايا فتتركنا المرايا تائهينا” المجازُ سفرٌ، وبوحٌ، وصِناعَة عالمٍ بدِيل؛ من أجلِ مُداواة أوجاعِه، وتطهيرِ جراحِه، حيثُ “لم يعد في العمر متسعٌ”؛ لهذا يؤكِّد على أهميَّة القصِيدة، باعتبارِها عالمَه، ووطنَه: “هاجرت في الذكرى تركت شراع أحلامي وسفينتي الأولى وسكنت في وجع القصيدة!” “المعنى” وطنٌ بدِيل، وعالمٌ مُخترَع، احتاجَ لمَن يمسكُه، ويلمُّ شتاتَه، فاستدعَى الأُنثى؛ لتمارسَ شغفَها في كَشف الدلالةِ، واحتضانِ الذَّات، إذ هيَ توأمُ المجَاز، ورفيقُ السَّفر، والسَّهر: “شفتاك فاكهة المجاز، قطفتها فسقطتُ! حتى الآن لم أصلِ الثرى! عيناك نافذة الغموض، فتحتها فتكشَّف المعنى مداراً أخضرا” استدعاءُ الأُنثى؛ هدفهُ ترتيبُ الفوضَى، واكتشافُ المعنَى، والمساعدةُ في إكمالِ الرِّحلة؛ لإنهاءِ مُعاناته الممتلِئة بالأحزَان، والمشحُونة بالأسَى، حيثُ تودُّ الذَّات الهربَ، وإيجادَ مخرَج لأزمَاتها: “لأني أحبك ما عدت أعرف كيف أرتِّبُني في ارتباك الحضورِ وكيف أرتِّبُني في شتات الغياب!؟” حين يصلُ الصَّحراء؛ تزدادُ صعُوبة الرِّحلة، ويغدُو العثورُ على “المعنى”؛ ضرباً من الوهمِ، لكنَّه مصمِّم على إكمَالها، غيرَ مبالٍ بالتَّعب، والإرهَاق، ومُحاولات الحبيبةِ لثنيهِ: “قل للمسافر فيك قد أرهقتني! في كل يوم للغيوب تسافر” لم يكُن أوَّل أخطائِه، ولن يكُون آخِرها، فالحياةُ أخطاءٌ متكرِّرة، ومُتراكمَة؛ ارتكَب بعضَها مع أصدقائِه، وها هوَ يُعيدها معَ حبيبتِه: “ضعفاءُ منذُ بدت لنا سوءاتُنا ننمو! وتنمو حولنا الأخطاءُ” تكرارُ الخطَأ؛ يفاقمُ المأسَاة، ويقودُ إلى تركِ الذَّات عاريَة من أصدقائِها، إذ تغدُو “الحيرة” صفةً، و”الوحدة” نتيجةً، وحينَ تظنُّ الابتعادَ، و”الصمت” عِلاجاً “أمّا الرفاق فباعوني لأسئلتي، أمّا الحبيبة باعتني لأحزاني”، تكتشفُ بمرارَة؛ أنَّ الكَلام هوَ الحلُّ لعطشِ الرُّوح، مثلَما أنَّ الماءَ حلٌّ لعطشِ الجسَد، فتترسَّخ قناعتُها بضرورةِ ممارسَة البَوح: “لم يزل في العمر متسع لننطق جملتين من الكلام العذب”، حيثُ “أولُ عمرنا حرفٌ وآخر عمرنا حتفٌ وبينهما لهيبُ النار!”؛ الذي يستمرُّ في كيِّ الذَّات، وملئِها بالوهمِ، والوجَع، والبُكاء.