قراءة في ديوان الشاعر محمد الحسين الزمزمي (أثر الأمنيات)..
بنية شعريّة تجمع بين أصالة القديم وحداثة الرؤى وجماليات اللغة.
تتبدّى في هذا الديوان الحداثة في انبثاقها عبر الأصالة في تليدها والحريّة في تفتُّحها وتحرّرها من الأصفاد و الأغلال التي تكبّل العقل وتطفيْ الوجدان من خلال انزياحه عن السدود و القيود ، هكذا تشكّلت شعريّة هذا الديوان الذي عبر عن الرؤية في فضاءاتها الفسيحة ومساحاتها الرحيبة فجاء مطلع أولى قصائده مُصرَّعاً وإيقاعاته موزونة على موج البحور الخليلية ودوائرها العروضيّة، وفق أطولها مدى وأسلسها انسياباً و أجمعها دلالةً بحر الطويل في نفس ملحمي وانتظام إيقاعيٍّ و بناء مقطعيٍّ وعنوان مفارق (النهايات بدايات) ثنائيّة ضديّة تنتصر للجديد وتنتهج نهجه، في وعيٍ بيّنٍ بانتقالات ممتدّة تتواصل عبر التداعيات الملحميّة الملامح وتختزن حراكها عبر توالي الأساليب الطلبيّة ونتاجاتها التقريريّة وعلائقها المتّصلة بالنداء و الرجاء و الدعاء و الأصداء. ولعل ماهو لافت مدهش إسناد الصفات المجرّدة إلى الجوارح المقيّدة (القلوب سكارى) وارتباط المفرادت في أنساق التركيب بأواصرها القريبة الوثيقة بها قرابةً في المعنى وتقابلاً في المبنى (الأم و الولد) : من مولد الحب أم من موته أفِد بعض الحكايات لا تفنى ولا تلِد وتتداعى المعاني في صيغها المتتابعة على النّسق نفسِه كأنها القرار و الجواب كما هي في التلاوة وفي الموسيقى ، طبقات الصوت المتباينة و المتّسقة بين الغلظة و الرِّقة ، وهنا يأتي التفاوت في المعنى و المبنى بما يخدم الدلالة ويشنّف الأسماع ، ثم تداعيات الأساليب تكراراً ونفياًّ وإثباتاً خبراً و إنشاءً والالتفات المدهش في الانتقالات المفاجئة والربط الاستعاريِّ المتباعد (فيلق الوجدان) الذي يذكّرنا بمجازات أبي تمام الذي أحدث ثورةً لغويّةً في زمنه ؛ وفضلاًعن ذلك كلّه يدهشنا بالتوَحّد الكوني في تجلياته وارتباطاته الوجودية بالإنسان ؛ حيث (الربط بين عروق الجسد وامتداداته في غسق الفجر و المساء ) والتعبيرات المألوفة في الخطابات الصوفية والنَفَس الملحميّ ، وضراعة الدعاء ومعاناة الشكوى ، والمدّ الروحي التعبُدي في الدعاء (يامخرج الحي) و (يامفني العظام) حيث التناصّ مع المتن القرآني بصيغته الكنائيّة التعظيميّة و المفردات التعبّدية (من صاموا و من صلوا) أما النجوي ففي ضراعة وخشوع وشكوى وخضوع، ودعاء مُرتجٍ وأمل مُنتظَر ، ووصف لبؤس الحال وسوء المآل وانقضاء الأجل وحصاد الهشيم، بين تضادّ المصائر (النار و البرد) وخيبة المآل وانكسار الرجاء ، وروعة التمثيل و التجسيد و التشخيص والدعاء: يارب يارب اتعبت القتال وما في فيلق الوجد جندي سيرتعد وتأتي الانعطافة الجوهرية في نهاية القصيدة عبر الالتفاتة الصادمة في خطاب الآخر (الأنثى) “ خذي ما أبقيت من أثر أو فامنحيني فقلبي في الهوى لبد” أي البقاء فيه والاستقرار معه، ويأتي المنعطف الثالث منسجماً مع بنية القصيدة التراثية ، حيث الحكمة المستخلصة لتكتمل القصيدة في تشكّلها النهائي في خاتمة تنطوي على كمال الرؤية وزبدة القول في نفيٍ للوهم وإثباتٍ للحقيقة وعبر صورة تمثّلها وتجسدها: لا يزرع المر من يرجو جناه ولا يستنبت الورد أعمى ما لديه غد والوعي حاضر في قصائد الشاعر بقوة صارمة وانتباه مركّز ، يعمد فيه إلى عقلنة العواطف وتقنين التجارب في ذاتيّة تستغرق الحضور وتكرّس الوجود ، عبر الثنائية القائمة على ازدواجية الفعل نفياً وإثباتاً ، فيها قدر من المهارة في استثمار اللغة وتطويع الإيقاع كما في قصيدته (لا شيء يبدأ مرتين) في توصيفٍ للتجربة وارتحالٍ مع سياقها ، فلا وقت للخطأ مرتين ، وفي بوحٍ حميم بنتاجها ، ونفي حاسم للانسياق وراءها والتكنيَة عن طبيعتها ،وفي هندسة قولية تخضع لازدواجيّتها ؛ فيذكِّرنا بتجربة أبي العلاء في لزومياته وحضوره الذهني القوي، فيقرأ هواجسه ويملي خواطره ويبوح بمخاوفه في نبرة جادّة واعتراف صريح، مستدعياً قصة زرقاء اليمامة ونبوءتها واعترافٍ بما يختزنه و يشارك فيه منتهياً إلى خلاصة بائسة حيث الإيثار الذي ينتهي إلى خيبة الأمل و فقدان الرجاء على إيقاع البحر الكامل الذي ينطوي على ثلاثين حركة ؛ فجاء مطواعاً لفكرة الشاعر مرناً يستوعب ماالتزم به من ثنائيات في قافيته. وفي سلسلة الطلب عبر أفعال الأمر التي يبدو فيها الشاعر مخاطباً نفسه مُهدهِدا لآلامه مُنشطراً على ذاته في قصيدته (السنابل) مُعقِّباً في تذييل (بالمفهوم اللغوي) وليس البلاغي بما يدعم خطابه ومبرهناّ على صحة ما ذهب إليه مؤكّداً -كما أسلفت - بوعي تام ومنطق صريح ، ودليل قاطع في صيغ إنشائية تارةً و تقريرية تارةً أخرى ، ما يجعله على مسافةٍ بين نثريّة المعنى وشعريّة التشكيل مُستنقذاً لخطابه من السطحي و المألوف إلى المتفرد والمتميز : تمرّد ، تدتثر، وقل و زد ، تسامح ، تبسّم ، تجاوز ، وختمها بجملتي النهي (لاتنخدع و لاتنسَ) سلسلة من النصائح و الحكم البالغة مُؤكّدة بالأدلّة و بنكهةٍ نصيّة مستمدة من تراث روحي عريق في مفارقة مع اللغة الفورية الشعبية : تجاوز و لاتنخدع (بالبشوت) ولا تنس أصلك ( ماء مهين) وعلى هذا المنوال ينسج قصيدته (الموت إكسير الحياة) في عمق فلسفي أبعد غوراً، وفي كنايات وصور متعاقبة تضفي على الفكرة بعداً شعريّاً يستنقذها من بين براثن التقرير الخالص و النثريّة الجافة مع التزام بالمثنّيات التي أشرت لها في قصيدة سابقة ، و شبهتها بلزوميات المعري، وفي لغة حافلة بأسماء المعاني المجرّدة (المصادر) التي تنأى عن التحديد الزماني و المكاني ، بدءاً بالعنوان وثنائية الموت و الحياة فقد أحصيت على عجل ما يزيد على ثلاثين منها في سلسلة من النصائح التي تتداعى في انسيابيّةٍ يأخذ بعضها برقاب بعض عبر سلسلة من الصفات المجرّدة و التمثيل و التجسيد في صور و مشاهد ؛ رؤى عميقة وأدلّة ناصعة ومعادلات خيالية فكرية وجدانية، تجمع بين حقائق الوجود وأعيان الشهود، وسوق الأمثلة في شعريّة تستلّ خصوصيتها من اختراق المُشَاهَد و المحسوس إلى الخفيِّ والمكنون : هذا الزمان مخاتل فغيومه شمس و في أصل الجحيم له قرى والصخر يقتلع الرياح وماؤه يجري إذا عب الأذى و تحجرا وإذ بدا الشاعر وقد عمد إلى التميّز و مجافاة المألوف ينظم قصيدته ذات العنوان غير الشائع الذي يحضُر في بؤرته الوعي كاملاً مكثّفاً بتركيز شديد على جوهر الظواهر، ويعرض عن هوامشها (مختصر الأنوثة) فأنثاه تبدو وقد اختزلت خصائص النوع كلّه ، ويختار لها إيقاع البحر العروضي غير الشائع بين بحور الشعر في لحنه الحركي المتقافز ؛ فقد سمي بهذا الاسم لأنه اجتث من( طويل دائرته العروضية ) إذ يلائم العنوان (مختصر الأنوثة) فوزن المجتث حسب الدوائر العروضية غير المستعمل (مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن) لكن المستعمل منه مختصره الذي اجتث منه (مستفعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) ومن خصائصه أنه من أكثر البحور ملاءمة للغناء، وهو بحر قليل الاستعمال في الغالب و،هو قلب لمجزوء الخفيف ، واللافت في هذه القصيدة أن الشاعر عمد إلى إتقان صناعته البديعية وعدوله حتى عن المحسنات المعروفة ؛ بل عمد إلى الاتكاء على الإيقاع الصوتي وموسيقى حرف السين على نحو خاص ، فهو حرف مهموس، وقد استثمره الشاعر إيقاعا وصوتاً رخواً منفتحاً ومن أهم صفاته الصفير. وأبرز الظواهر في هذا النص الذي ينسجم مع نهج الشاعر ترجمة المحسوس بالمجرد على عكس المألوف، حيث يتبدّى الانزياح في الغالب عبر التجسيم و التشخيص ؛ وهنا عمد الشاعر إلى مخالفة هذه القاعدة البلاغية التقليدية كما يبدو في قوله : تفوق سحر الموسيقى روحاً وعمقاً وحسّاً بها بدت كل أنثى تلقن الفن درسا وكما هو واضح فإن الشاعر يستثمر التداعيات (روحاً و عمقاً و حسّاً) منثالةً في تغذّية الإيقاع وكذلك ا( الفعل و الاستجابة) في ثنائية الحركة وما يترتب عليها (تميل نحوي فأنما مستثمرا تقنية المشهد في تشخيص وتعقيل ، ومن خلال الصور المبتكرة (ليس وجها إلا لها فيه مرسى) تكنيَة تبتدع مجازها الخاص متجاوزة عن الثنائيات المألوفة في التشبيه و التمثيل تعبيراً عن خوارق الجمال وعميق الآثار ؛ حيث الرسوّ و الاستقرار و الثبات بتعبير يندُّ عن المألوف في البيان العربي ؛ فالجمال الأنثوي البديع الذي يصف فيه أنثاه لا يستثير إعجاباً عابراً بل يظلُّ في الوجوه محسوساَ و ملموساَ ليستقر في الأذهان ؛ فضلا عن ذلك كله، نجده ينتقي ثنائياته بشفافية عالية لاتقف عند حدود التضاد بل تتجاوزها إلى ظلال أخرى تفترش المشهد وتستثير الشعور ( القلب و الجرح) و(الجرح و الترس) و(البؤس و اليأس). ولا ينسى أن يختتم القصيدة بالحكمة التي تناسب المقام وتنتهي بسلسلة المعاني والصور والأنغام (قاسٍ هو الحب .. لكن عمر بلا حب أقسى) وفي قصائد الديون ما يحاكي مضرب الأمثال مستثمرا طاقته الذهنية و الوجدانية فيسوق المشاهد مرآة لأفكاره ورموزاً لمعانيه (الصقر و الصخر والإنسان و الحواس و الأحاسيس) ليوميء إلى حكمة إلهية من أسرار الوجود؛ فكلّ شيء له مداه كما في قصيدته (الظلام مسرح الضوء) يؤكد ما ذهبت إليه من حضور الوعي ودينامية الفكر ونهج الفلسفة . هذه قراءة لبعض قصائد الديوان التي أعتقد أنها تمثّل إلى حدٍّ ما أسلوبه ورؤيته وشاعريته ، ومثل هذا العمل الإبداعي لا يمكن الوفاء بحقه من خلال مقالة كهذه ؛ بل يقتضي دراسة واسعة تلمّ بأسرار الجمال فيه وتميط اللثام عن عميق رؤاه وخصائص اللغة فيه.