المعلم صالح العييري.. قيثارة التسامح.
هناك أشخاصٌ يغوصون عميقًا في بحر الفلسفة، ويحلقون عاليًا في فضاء الفكر، يتميزون بملكات فائقة على التفكير النقدي، ويختصون بمهارات عالية في التحليل الإبداعي، شغوفون كثيرًا في البحث عن الحقيقة من خلال التأمل والبحث في المؤلفات المرجعية، دون أن يثنوا ركبهم على مقاعد الدراسة، غير متقيدين بأنظمة أكاديمية تقليدية. وعلى الرغم من غياب الخلفية الأكاديمية في مجال الفلسفة، فإن ابداعاتهم ورؤاهم غالبًا ما تكون عميقة وذات أثر، لماذا؟ لأنها تنبع من تجربة إنسانية صادقة، ومنهجية ذهنية غير مقيّدة. يُطلق على هذه الكوكبة “المفكرين الأحرار” أو “الفلاسفة غير الأكاديميين” يمتلكون شغفًا قويًا للتعلم والاكتشاف في مجالات متعددة. قادرون على تحليل الأفكار والمفاهيم بطرق غير تقليدية، يعيدون صياغة الأسئلة الكبرى وتبسيطها بطرق جديدة وغير مألوفة، يعتمدون على القراءة المكثفة، مكتفين بالتجارب الشخصية بدلاً من التعليم الرسمي، ونظرًا لأسلوبهم البسيط والقريب من الناس غالبًا ما تكون أفكارهم ملهمة، وعباراتهم مؤثرة. من أمثال بأنفسهما،لسوف اليوناني “سقراط 470 – 399 ق. م.” الذي كان يُعرف بحواراته الفكرية الجريئة ولم يكن مرتبطًا بمؤسسة تعليمية رسمية، والفيلسوف الروسي “ليو تولستوي 1828- 1910م.” الذي عُرف بفلسفته الأخلاقية رغم كونه أديبًا فإنه لم يتلق أي درس نظامي في الفلسفة، ويشترك الفيلسوف السعودي “صالح العييري” مع الفيلسوف “تولستي” بثلاثة قواسم مشتركة، الأول أنهما طورا ملكاتهما الفلسفية بأنفسهما ، والقاسم الثاني تركيزهما القوي على قيم الأخلاق ومبادئ التسامح، أما الثالث فإن كل منهما ينتمي لعائلة أرستقراطية، فلم يلههم الجاه عن السير في دروب الفكر، والغوص في بحار الفلسفة. وأحسب أن “ الأستاذ صالح بن عبد الله العييري” قطعةً ثمينة من هذا النسيج المدبج الرائع، بل كان قيثارة أطربتنا لسنوات عديدة بأناشيد المحبة وأراجيز التسامح، تلك المزامير التي تحمل في طياتها الكثير من بوصلات الرمزية ولوحات الجمال. فقد كان مفكرًا وباحثًا سعوديًا بارزًا، وُلد في “مدينة بريدة بمنطقة القصيم” عام 1371 هـ -1951م. تلقى فيها تعليمه الابتدائي والمتوسط والثانوي، بعد ذلك التحق بقسم الجغرافيا في “كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية” في “مدينة الرياض” وتخرج فيها عام 1396 هـ. ثم بدأ مسيرته المهنية كمعلم في “المدرسة المتوسطة الثانية بالرياض” واستمر فيها حتى عام 1399 هـ. ثم انتُدب للتدريس في “اليمن” لمدة أربعة أعوام، عمل خلالها في مدينتي “الحديدة” و “إب” وبعد عودته، إلى “المملكة” انتقل إلى “منطقة القصيم” حيث واصل مسيرته المهنية. وقد كانت له اسهامات جيدة في تألف المناهج الدراسية حيث اشترك في عضوية اللجان المكلفة بذلك. وكان يؤكد دائمًا على أهمية، بل ضرورة نشر بذور التسامح في جميع المناهج، بلا استثناء، حيث شارك في إعداد مناهج التربية الوطنية، كما كانت له إسهامات فكرية وأدبية مميزة. من أبرز مؤلفاته كتاب “تولب نافع” الذي يتناول حوارًا فلسفيًا بين الحيوان، ويمثله “تَوْلَب” وهو ولد الحمار إذا استكمل الحول، وصاحبه “نافع” الذي هو “صالح” – المؤلف نفسه - وقد جاء هذا الكتاب بأسلوب سلس، يعكس اهتمامه بتبسيط المفاهيم الفلسفية، وجعلها في متناول الجميع. ومن نتاجه الفكري “الموسوعة الموجزة للعلوم والثقافة والفنون” التي قدمت للباحثين والقُرَّاء معلومات شاملة بأساليب مبسطة في عدد من المجالات العلمية، والثقافية، والسياسية، والفكرية. ومن نتاجه الفكري “البداية كانت” و”ميلاد البشرية مرة أخرى” و”اتجاهات الفكر الحركي” تميز الأستاذ صالح بأسلوبه الشيق والسهل الممتنع في الكتابة، كما أبدع في تناول الموضوعات الفكرية والفلسفية بعمق وبساطة في آن واحد. كان يسعى حثيثًا إلى تعزيز الوعي الثقافي والفكري في المجتمع، وذلك من خلال مؤلفاته ومحاضراته ومشاركاته في الفعاليات الثقافية، وحضوره الدائم في الصوالين الأدبية. واستضافاته المستمرة للمثقفين في منزله الخاص. كان – رحمه الله – متصالحًا مع نفسه، ومتسامحًا مع الآخرين، فلم يكن متشبثًا بأفكاره، ولا متمسكًا بقناعاته، حتى أنه تراجع عن أحد مؤلفاته لعدم قناعته، بصواب كثيرًا مما طرحه فيه من أفكار ورؤى. ومن الجدير بالذكر أنه حفيد “الوجيه أحمد بن علي العييري” الذي لا يزال الزمن يذكر له تسامحه النبيل بل النادر، حيث اكتشف – ذات مرة - أن رجلًا انقطع عن صلاة الجماعة في المسجد وعن الخروج من المنزل، بسبب حرجه وعدم قدرته على سداد أجرة المنزل المملوك للوجيه أحمد ولمّا علم هرع إلى المستأجر وقرع الباب عليه، واصطحبه إلى أحد كتاب العدل التقليديين، ثم أفرغ ملكية البيت له دون مقابل، حتى لا يكون سببًا في عدم خروجه، وانقطاعه عن العمل، وتركه لصلاة الجماعة. رحل “الأستاذ صالح بن عبد الله العييري” يوم الخميس الماضي 18 من شهر جماد الثانية لعام 1446هـ الموافق 19 من شهر ديسمبر لعام 2024م، وأقيمت الصلاة على روحه الزكية في “جامع الشيخ محمد بن عبد الوهاب “ في “مدينة بريدة” ووري جثمانه الطاهر في “مقبرة الموطا” تاركًا على الساحة الفكرية إرثًا ثقافيًا وأدبيًا غنيًا، لا يزال يُلهم الأجيال الجديدة من الباحثين والمهتمين بالفكر والشغوفين بالفلسفة. كما ترك مكتبة منزلية عامرةً بعشرات آلاف الكتب في جميع أبواب الأدب، وفي كافة مجالات الثقافة. ستظل أعماله ومؤلفاته شاهدة على إسهاماته القيمة في إثراء الساحة الثقافية السعودية والعربية. كما ترك شبكةً واسعة من العلاقات الواسعة مع عدد غفير من المثقفين في “المملكة العربية السعودية” وخارجها. رحمك الله “أبا إياد” وسامحك، فقد رحلت على غير عادتك بدون استئذان، ولا مشاورة، بل أخذت معك شقيقك عبد العزيز، الذي التحق بك بعد ثلاثة أيام من رحيلك إلى الرفيق الأعلى، وهو الذي أضناه المرض، وقَرَّح جفونه السهر سنوات عديدة. برحيلك صمتت قيثارة التسامح، لكن إرثك السخي سيظل حاضرًا ليخفف عنا ألم الفراق الأبدي. أسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.