فتنة القول بالبنيوية!
يشعرني أسلوب الأستاذ حسين بافقيه بالرِّيّ والشَّبَع وكأنما أنهل وأعلُّ من ينبوع متدفّق، وهو يرصد ويحلِّلُ ويستقصي الأحداث والوقائع الثقافية، وهذا المذاق لا أجده إلا في تلك الأساليب التي خلت من شوائب العجمة، من أدباء الرعيل الأول في عصر النهضة، وممن يكتبون على سنن الطريقة البيانية التي هي امتداد للأسلوب البياني الفخم المتين مع اختلاف في طرائقه بين ترسّل سردي وتحرير علمي. وفي كتاب «فتنة القول بالبنيوية» يمتعك هذا الأسلوب وهو يتتبّع ويسبر تاريخ النظرية البنيوية أو المنهج البنيوي ويرصد أبرز مراحله من الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية، ويكشف عن حركة سير المصطلح والافتتان به وتعدد إطلاقاته إلى أن يبلغ غايته في الدرس النقدي الحديث. وقد استطاع الأستاذ حسين من خلال هذا التتبع أن يكشف عن سيرة مغفول عنها في تاريخ النقد الحداثي كما وصفه، وتاريخ هذه النظرية على الخصوص، النظرية التي وفدت ورفدت المشهد النقدي بالمصطلحات والمفاهيم وأحالتها في ذلك الحين إلى معجم اصطلاحي شائع على ألسنة النقاد والمثقفين. وكان من الطبيعي أن يشيع هذا المعجم في ظل الاتصال الجديد مع المناهج الغربية الحديثة، بل وما زالت المصطلحات الوافدة تترى إلى يومنا هذا، فطبيعة الاتصال الثقافي والفكري تقضي بمثل هذا التأثّر والأثر لاسيما حين يكون المتلقي في موضع المستقبِل الواعد أو الناهض بما يراه جديدا بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع طريقة التلقي والافتتان وهي طريقة تكاد تكون سنة مطردة بين كل ثقافة غالبة وأخرى أفل نجمها وتحاول العودة مجددا إلى البروز من ذات الطريق الحضارية السالكة. تمنيت أن هذا الكتاب القيّم خرج في وقت مبكر، رغم أن خروجه اليوم مفيد وله أثره في سياق التاريخ الثقافي وهو حقل متجدد يقف حسين بافقيه علما بارزا من أعلامه في شأن المشهد الثقافي السعودي، وجل كتاباته في هذا الشأن المهم والحقل النادر وهي كتابات تستحق الدراسة والاهتمام، لأنها تمثل سجلا ثقافيا ليس للثقافة السعودية وحسب، بل وللثقافة العربية، وقراءتها تباعا وفق منهج استقرائي يرينا الحراك الثقافي من أكثر من زاوية، سواء فيما يتعلق بالحداثة الغائبة أو التراث المُغيّب تحت سلطة الثقافة الجديدة، وكلا الأمرين مهم لإعادة القراءة الناضجة في حقبة جديدة شرعت في مراجعة كل ما سلف من نتاج معرفي وثقافي، بل ودعت إلى قراءة الموروث المحلي بانفتاح جديد خارج حركة الصراع الجدلي بين الثقافة العالمة والثقافة العامية وصار كل المطروح مشاعا للقراءة والمراجعة وإعادة النظر من أجل بناء ثقافة راسخة الجذور وارفة الأغصان.