فلسفة الحياة الأمريكية.

كتب العديد من الرحّالة والكُتّاب والأدباء، الذين زاروا الولايات المتحدّة أو أقاموا فيها، مقالات أو أجزاء من كُتبٍ في سيَر حياتهم، ومنهم من كتب مؤلَّفاً كاملاً عن مُشاهداته وانطباعاته عن تلك البلاد؛ مثل كتاب “أيام في أمريكا” للدكتور زكي نجيب محمود، أو “العودة سائحاً إلى كاليفورنيا” للدكتور غازي القصيبي، أو “أمريكا يا ويكا” للكاتب الساخر محمود السعدني، أو “من أمريكا إلى الشاطيء الآخر” للدكتور مصطفى محمود”، أو “أمريكا خبط لزق” للصحفية هالة سرحان.. وغيرهم. لقد زُرتُ الولايات المتحدة منذ الثمانينيات، للعمل والسياحة، وأقمتُ بها حيناً من الدهر للدراسة، ولذلك فأني أزعم بأني أعرف بعض الشيء عن تلك البلاد، ولكني هنا لن أكتب عن وصفها أو أقارنها بغيرها أو أشرح مظاهرها، فكلّ ذلك لم يعُد مُدهشاً أو جديداً، بعد تعدّد وسائل الاتصال والإعلام وانتشار الثقافة الأمريكية في مختلف مناطق العالم. ولكني سأتحدّث عن الشخصية الأمريكية ودوافع انفرادها بصفات معيّنة، ربما بعوامل ثقافية أو اجتماعية أو تاريخية، ساهمت في تكوين تلك الشخصية. إن هذه البلاد القارّة في اتّساعها، قامت على الهجرة والوافدين، فلا يكاد يوجد شعبٌ في العالم القديم إلا وله جالية في هذا العالم الجديد، ومع ذلك فقد انصهروا في نسيج هذا المجتمع وتشرّبوا ثقافته. ومن يُخالط الأمريكي العادي، يجد فيه صفات تُميّزه عن نموذج الشخصية الغربية الكلاسيكية، فهو مثلاً أكثر من الأوروبي في بساطته وكرَمه وانفتاحه على الناس، وبالتالي فليس لديه عُقدة “المظهر”، فهو أبسط أولئك القوم في هيئته ولباسه، وأقلّهم تصنّعاً وتكلّفاً. وهو يُقدّس قيَماً إيجابية، أهمّها العمل؛ فالعمل هو ما يُميّز الناس، لا الطبقة ولا الاسم ولا الأسرة، كما هو الحال في فرنسا أو إنجلترا مثلاً. والوالدان يزرعان في ابناءهما حُبّ العمل منذ الصِغر، ولذا تجد الصبيّ مثلاً، إذا طلب مصروفاً يزيد عن حاجاته الأساسية، قال له أهله: عليك إذن غسيل السيارة كلّ أسبوع ونُعطيك كذا دولار، أو عليك بتنظيف زُجاج نوافذ المنزل والأبواب، أو اذهب إلى نادي التّنس القريب، حيث يحتاجون إلى أولاد يجمعون الكُرات التي يلعب بها اللّاعبون. فالطّفل مهما كان حظّ أسرته من الثراء، لابدّ أن يعرف أن القِرش له قيمة، وأن له أن يستمتع ويلهو، بقدر ما يعمل ويكسب. إن المواطن الأمريكي عادةً، لا يُطيق الكفّ عن الحركة والعمل ولا يُطيق البقاء في مكانٍ واحد، لأن في انتظاره عملاً آخر لا بدّ من تأديَته، يتناول طعامه بسرعة ثم يقفز إلى سيارته، أو يتناوله أمام التلفزيون أو في السيارة نفسها. فإذا دعاك إلى الغداء فهو “غداء عمل”، وإذا فكّر أن يدعو معك شخصاً آخر، فلأنه يرى أن من المُفيد أن يتعرّف أحدكما على الآخر. وهو مُغرم بجمع أسماء المعارف وعناوينهم، ويشعر بالفخر لكثرة معارفه واتّصالاته هنا وهناك. إن في بلدٍ له مثل ما للولايات المتّحدة من موارد تبدو وكأنها لا حدود أو نهاية لها، تستغرب كيف يكون لأهلها هذا الولع بالأرقام والحساب؟ ذلك أني لم أُصادف شعباً يستخدم في كلامه العادي، قدر ما يستخدمه الأمريكي من أرقام: فأسعار السِلع بأجزائها العشرية، وسِعة خزّان سيارته من الوقود، وعدد الأميال بين مكان وآخر، والوقت الذي تستغرقه رحلة أو تأديَة عمل.. والرّجُل لا يوصَف بأنه طويل أو قصير، ولكن يُقال لك أن طوله ستّة أقدامٍ وبوصتان، والمكان لا يوصف بأنه بعيد أو قريب، وإنما تُخبر عمّا تستغرقه الرحلة إليه من الساعات والدقائق، بالسيارة أو الطائرة! وقد لا يبدو في هذا المَيل الواضح إلى التعبير الرقمي غضاضة، لولا انعكاسه على فكرة الأمريكي عن “الكفاءة”. فالكفاءة لديه هي بوجه عام: إنتاج أكبر قدر بأقلّ تكلُفة، أو القيام بأكبر عدد من الأعمال في أقلّ وقتٍ مُمكن. أما سطوة الإعلام في ذلك المجتمع وتأثيره في الناس، فحدّث ولا حرج، فالإذاعة والتلفزيون والصحافة والسينما تُقدّم للناس كلّ شيء: الترفيه والإعلانات التجارية والسياسة والأحلام. ولأن المؤسّسات الإعلامية تجارية، بما فيها التلفزيون؛ فقد صار هذا هو الأساس في تنافسها، وصار الزعماء السياسيون يُنافسون شركات صناعة الصابون، في شراء الوقت على الشاشة الصغيرة بالدقيقة والثانية، وثمنها بعشرات الآلاف من الدولارات. ونحن نعرف جميعاً أفلام الغرب western، التي تُرى فيها قوافل المهاجرين بالعربات والخيول تشقّ طريقها غرباً، وتنتزع الأراضي من سُكّانها الأصليين “الهنود الحُمر”. ونعرف أيضاً أفلام رُعاة البقر cowboys، حيث لا يوجد قانون، ولكن يوجد أمران: الأول مُحاولة كسب المال بأي ثمن، والثاني أن الفوز لمن تكون يده أسرع في سحب المُسدّس وإطلاق النار. إن نوعيّة هذه الأفلام التي تُعرض على الشاشات باستمرار، تؤثّر في الفرد الأمريكي، وهذه الأفلام بالذّات هي نتاج تجربة حقيقية في تكوين هذا الشعب، وصدىً لقيَمٍ حقيقية ما زالت كامنة فيه. الفرد هناك هو البداية والنهاية، ومن حقّ الفرد أن يُصارع في سبيل نيل ما يُريد، والبقاء للأقوى.. الغاية هو الدولار، والوسيلة هي المسدّس، والبطل هو المُغامر القادر على العمل الشّاق، وقوّته هي وسيلته عدواناً أو دفاعاً! ومن المُدهش أنه حتى الآن، بعد كلّ هذه الحضارة، ما زالت أحد أقوى “جماعات الضغط” lobbies هُم أولئك الذين يُدافعون عن حقّ اقتناء السلاح لكلّ فرد. إن التاريخ الأمريكي فيه ثلاث تجارب لا تُنسى، وهي تترك بصمتها على الشخصية الأمريكية إلى الآن: الأولى: أن الأمريكي جاء مُهاجراً، وكلّما شغل مكاناً زحف غرباً إلى مكان جديد. الثانية: أنه في هذه العملية كان يُبيد في طريقه أصحاب البلاد الأصليين، فهو قد انتزع الأرض بذراعه وسلاحه، وليُبرّر لنفسه ذلك؛ لا بدّ أن يؤمن بفكرة أن الأقوى هو صاحب الحق. الثالثة: أنه خطف العبيد من إفريقيا وجعلهم مُلكاً له، وأقام على أساس عبوديّتهم زراعاته الواسعة، واستخدمهم في أشقّ أنواع العمل، وحكم بالإعدام على من تمرّد منهم. إن هذه التجارب الكامنة في النفس الأمريكية تُبدي نفسها في صوَر العُنف الشديد، الذي إن لم يلمسوه في حياتهم الواقعية، عبر إطلاق النار العشوائي في المدارس والنوادي والمتاجر، شاهدوه عبر الأفلام والمسلسلات! ولقد كان من أعمق الأوتار التي عزفتْ عليها الصهيونية وجماعات الضغط المؤيّدة لها في احتلال “فلسطين”، هي المُقارنات غير المُباشرة بين تجربة “الكيان” والولايات المُتّحدة؛ فكِلاهُما مُهاجرين، وكِلاهُما طرد شعباً آخر من أرضه، على أساس حقّ التفوّق والقوّة!