هو من الأرواح الحالمة والاحتراق الشعري في أسفاره وتجاربه الناضجة ، القرني لديه نزوع فاخر للتعالق مع الأفق الكوني ،والذهاب بثقة إلى منصة الرؤية الأرحب في حقول الشعر ، نلحظ في شعره التفجرات الأنيقة ، والانزياح الواعي ،وضرب المخيلة الكسلى ، في شعره تجريد لا متناه ، وتحريك للمستقرات الذهنية ، وهزها بعنف لا لإسقاطها وتفتيتها ، وإنما للوصول لجوهرها وكنه الكامن في جمالياتها ومكتنزاتها ، شاعر يصوغ تدفقات روحه في اقصر مضمون، واعمق تكثيف فهو شاعر مقتصد في بوحه غير مستهلك لجسد القصيدة طولا أوعرضا ، يعشق تحريك الجبل الشعري في داخله ،دون التعابث أو مغايرة الأسلاف ، أو الاستهانة بحضورهم التاريخي ، يتحلى بدرجة عليا من التأمل والصدق ، والمضاهات الجسورة ، تحتاج قصيدة القرني إلى قارئ ممتلئ معرفة شعرية ، وعارف بكل ألاعيب الشعراء وسبر أغوارهم المتمنعة ،وقادر على مجابهة النص وكشف مضامينه ، واقتناص معناه ودلالته و( مافوق النص وما تحته أو ما وراءه ) يميل حسن القرني إلى مشاكسة القارئ شعرا وعاطفة وأفكارا عبر غلالته الصوتية وإيقاعه الغزير حين يقول (أحب أو أكره أو أزعم يضوع في الشيح والبرعم … في الشعر ما يشعرني أنني رغم الذي …لي مسمع لي فم …وكالذي في غاره مطرقا يطرقني المعرب والمعجم …خذوه أوذروه كم موجع أن يلقف السطحي والمرغم …فلاقف يقول :-( ذا مضمر ) وآخر يقول : ( ذامبهم )وبعد أن يقطع القرني مسافة ليست بالقصيرة بحثا عن المعنى الغائب لدى الآخر وإقناعه بما يظنه مغاليق وتعمية متحجبة في ذات الشعر وذات الشاعر ،فإذا به يصرخ مستغرقا في نصه دون كشف مغاليقه ودلالاته المتناسلة (فاستعجبوا واستفهموا إنما في الروح ما يبدى وما يكتم … وإنني أنزف فلتسألوا يجبكم - إن شاء - هذا الدم …قد قيل لي : “الخوف سلاح إذا واجه فيك البوح من يفهم # أضمره والتأويل منجاك إذ حاصرك الراؤون أومن هم… والشعر ينساب ولكنما يحرفه الجندل والأيهم والشعر لا تشبهه خطبة بل طلسم يتبعه طلسم ) في قصيدته =لعنة التورية =من ديوانه (قطرة من النصف الفارغ )الصادر من النادي الأدبي بالرياض عام 1442 يواصل القرني توتره المتدفق وتردداته الصوتية الحية التي تؤكد نزوعه وشغفه بممارسة انقلاباته الهامة في التصور والرؤية واختراقاته الشعرية المغايرة للسائد والمألوف في أرض الشعر، لديه قلق متوثب ويقظة غير مطمئنة ضد كسل الفهم لدى =الآخر = من حيث تقبلات النص، وما يترتب عليه من مشاحنات وتبعات وتشعبات والتباسات وتوالجات وتفسيرات وتغيير في المنظور المكرس حسب رؤيتهم ،فقصيدته محملة بالمعنى الفائض والأفعال التجريدية العالية ، والأفق التحولي المطلق ، يقول في قصيدته =لعنة التورية =(يطاردون على أنقاضي المعنى …وكم أطالوا ببابي المكث والظعنا … لكم تنادوا وقالوا -عندما يئسوا -لله ذات أسى =يارب أوزعنا = وقد أدرت لهم ظهرين فاختطفوا أدنى الكلام وكالوا الشتم واللعنا …وكلما قلت حرفا قيل :=هل…ماذا=وكلما صنت نفسي قيل :=أسمعنا =…أنا أخاف من الطوفان ليس أبي = نوح = ليهتف بي (هيا اركبن معنا ) حسن القرني يجيد قواعد اللعبة الشعرية ،خوفا من التأسن والاستكانة حين يحتمي بالقناع والإيحاء المضمر ،بحثا عن الفردوس المفقود ، وتجليات الروح ، والمعرفة الحدسية ، (عصي على أن يكون عاديا ويصعب الإمساك به ) يدهشك القرني بجرأته اللغوية ،والتوجس الخافت ،والمكر الشعري ، وقوة الأداء الغامض ، وكثرة التجريب ، والطرائق التعبيرية المخاتلة ،والدخول إلى مملكة التجديد والحداثة ،والتعاطي مع التجريب تثاقفا وممارسة ، قصيدته شظايا روحة الكامنة في ذاته ، ومكنونه النفسي ، الباحثة عن مناله الخاص ، وتوقه الذي حاول البعض التعابث معه ، وردم بسالاته وإطفاء حرائقه ، ودفن تطلعاته الفنية والجمالية ،وتأملاته ورغباته المشروعة ،والحيلولة دون اندفاعاته الشعرية المتأججة ، والمغامرة من خلال فوضاه الراقية ، وظلال لغته المستفزة ، وخروجه من عماء الحواس إلى نور الفضاءات ،يقول في قصيدة =حرف لامتناع الوجود =(لا أحفظ الأسماء مثل أبي وظللت عن كنهي وعن سببي …لولا - الحواريون -ماوسنوا عني و-هوذا-لم يخن عنبي …لولا سقيت لها لما جاءت محتالة وتقول :=إن أبي …= لولا فتاة ما أريق دم لولا منام ما أخيف صبي …لولا السماويون لاخترعوا في كل زاوية أبا لهب … لولاك ما تبت يداه وقد أغناه يا حمالة الحطب =قصيدة القرني فيها الخصوبة والنضارة والدلالات الكبرى ، المنتزعة من الحقل الديني والأسطوري والتاريخي ،مما ساعد على شحن فضاءته بطاقة من التأمل والحركة والاقتناص ،باعتبارها معيارا تقليديا في الشعرية العربية، يحاول القرني في إرثه الشعري الانعتاق من ربقة التشظي والأفول والارتياب الممض ، والخوف من المحو والقطيعة ، مما أكسبه بعد إيحائيا ودلاليا ،من خلال كثافة العبارة ، وحرارتها المستمدة من الرؤيا الإشراقية والفيض الحلمي (الهواجس تضرب خيمتها مثل بدو وفكرتها النابذة … كلما هب نحوي واحدهم ألعن الباب أو أشتم النافذة ) القرني يمارس تعابثه مع الأبعاد الصوتية ،مما أكسب قصيدته الدينامية والفاعلية في كل الاتجاهات داخل حقوله الشعرية ، ومشغولاته الإبداعية ،وانعطافات سردياته اليقظة والرهيفة والحيوية ، الهاربة من ذاته إلى جسد الكون الأبعد ،والتأمل الشارد ،والاندساس تحت تمرده الفارط ، وخروجه على نص الحياة القهري ،تقع في نصوص القرني ما يسمى (الابتلال بماء اللغة ) مما أكسب شعريته الطاقة التعبيرية البعيدة عن الاستغلاق والتمنع السلبي ،مما يستقطب اهتمام القارئ العارف ،ويمنحه إعمال الذهن والمتعة ، والكشف والمكاشفة ،والرحابة التكتيكية في الانتقالات الإيقاعية بين الأوزان في تلقائية باهرة ومتناغمة أخاذة.