في سيرة حمّى - للروائي خالد اليوسف..

الناس يكتشفون ذواتهم في ظل الجائحة.

قلما يحدث أن يحملني الكاتب من بداية نصّه على التجسد في شخصية إحدى الروايات، ساعدني على ذلك صيغة المخاطبة في بداية رواية «سيرة حمّى» للأديب خالد اليوسف، والتي بدأت في دور الدكتور خزيمة - عالم الآثار القديمة - الذي يرافق الأصدقاء إلى الصحراء، آنستني أحاديث الطريق بينهم، تعرفت فيها على رفاق الرحلة، ومعلوماتهم عن الأماكن التي مررنا بها، وقفت في الزاوية التي ينظرون منها إلى العالم الخارجي، وينظّرون فيها عن أفكارهم وفلسفاتهم، كنت جزءً من تلك الرحلة، وقد لانت مخيلتي مع الكاتب؛ كأنما يمسك بزمام أفكاري ليخبرني عما تلهمني به الصورة والموقف من ردة فعل وتساؤل، ثم ينقلني لإجابات الرفاق واستطرادهم حول ما أثاره من حديث، يأتي بعد ذلك دور المكان في الحبكة الروائية، حيث يكشف الصمان أسراره ومزاياه، من الدحول المترامية في نواحيه، وما يعترض روادها من صعوبات ومكافآت، مرورًا على المخاوف التي تسكن أنحاءه وتدب في جحوره آنسة بها، وموحشة بظهورها في مسار بطل الرواية، لكنها جزء من معالم المكان، وطبيعته القاسية. بعد العودة إلى الديار، يسفر النص عن طبيعة الحياة التي يعيشها الدكتور خزيمة، في منزله وبين زوجته وأطفاله، حيث كتبه وأبحاثه التي تأخذ أغلب وقته واهتمامه، ويستقر السرد عند لقطة ختامية بين أسرته وحكايا رحلته. بعد الفاصل الزمني الذي يتضح من تطور رحلات الدكتور خزيمة إلى الصحراء، وانكسار حاجز الوجل من استكشافها دون رفقة وخبراء، لم يعد عدم وجود رفيقٍ كافيًا لإلغاء مخططاته، فيخرج وحده ذات مرّة ليعود في وضع مختلف: «أزمة كورونا» التي تركت بصمتها الظاهرة على روح المكان، حيث الشوارع الهادئة، والصخب الذي خفت، حتى الأضواء التي تستمد وهجها من توافد الناس كانت خافتة واهنة، هذا التغير الملهم لم يترك له مجالاً للعبور خلاله دون التوقف، هنا حيث انتقلت إلى الشوارع الواسعة الرحيبة، والتي لم أرها من قبل بهذا الجمال، والوحشة، تتضارب المشاعر مع اتصال الصورة المستقرة الراكضة في الذاكرة؛ بما تراه في الحاضر المختلف، حيث يقال: أن أكثر ما يثيرنا ليس الأشياء الجديدة التي نتحفز لاكتشافها فحسب، بل كل ما تختلف سماته وصفاته عن العادة، المجمع الذي لم يعرف الهدوء منذ افتتاحه، حين تغلق المحلات أبوابها، تخلو الممرات من السائرين، وجود نقاط التفتيش الأمنية بشكل مكثف، الشعور بأن ما كنت تفعله بشكل سلس كالخروج والتجول أصبح يعد جريمة، وغير ذلك من المفارقات، التي جعلته يجازف بالتجول وحيدًا بمشاعر تضطرم إحساسًا وشاعرية. انتقل السرد بعدها ليصبح حديثًا عن مدى الفرق الذي تركته الجائحة في الجدول اليومي لأسرة بطل الرواية، ساعاته المكتبية التي زادت انتاجية بحضوره فيها، أنحاء الصمان التي أصبح الوصول إليها صعب المنال مع الحجر الصحي؛ لكنها كانت حاضرة في الصور والأبحاث العلمية التي احتاجت إلى تمحيص ووقت كافٍ لمراجعتها مجددًا، جاءت الفرصة التي نأت به عن ترحاله وتجواله؛ تناديه ليراجع كل ما وثقه وجمعه ويستحضر الذكريات والنتائج، كذلك انعكس هذا التواجد المثمر على أبناءه وأسرته، فلم تعد الجلسة تنتهي دون أن يجيب كل الأسئلة، أو يزيح كل الحيرة، كان الوقت كافيًا لينعم السؤال بإجابة وافية، مما جعل لتلك المرحلة وهجها وتميزها الفريد. على نسق المرويات التاريخية، اكتسى السرد بحلّة مهيبة بينما يتقمص النص هالة الراوي العليم، فيتحدث عن أحوال الناس ومشاعرهم أثناء الجائحة، بداية من النظر في أحوال السابقين وأحداثهم وأحلك أيامهم، وما روي عنها، ومرورًا باستحضار إبداعي للشخوص والمشاعر مع إعادة صياغتها بقالب يليق بالحدث المعاصر الجاثم، وانتهاء بالتصور الجمعي للأثر الذي تركه الحجر الصحي على محيط الرواية وأبطالها، «كأن البشر بدؤوا يكتشفون ما خفي عنهم أو فصل، تعرفوا على أنفسهم ونفسياتهم، استبانوا أحوالهم وحالاتهم، تجلّى لهم تكوين أفكارهم وتصرفاتهم، وأعلنوا عن فهم الحياة، وكيف يسيرون فيها، اكتشفوا أنّهم بحاجة لهذا العزل!» ثم لم تخل الرواية من تضمين لأصناف إبداعية أخرى: «القصيدة النثرية - القصة القصيرة - النصوص الشعرية» سواء من حسن توظيف لاقتباس أو براعة وصفٍ، وفردانية مهارة، في تجسيد الحالة الجمعية والمشاعر الداخلية، بل حتى الحكايا التي سمعت، اﻷحاديث التي درات وعوصرت، حول آثار الحجر المنزلي على الأسرة والعلاقات الإنسانية بشكل عام، جسدت صورها وسياقاتها في قالب الرواية في تفصيل وافر، وأسلوب عامر بالشواهد المتنوعة، «الرياض تنوء بمن فيها، ملايين البشر الراجفين دبيبًا فوق جسدها يختفون، لم تعد مدينة الصخب، والضوضاء الملتهب، كل ما فيها اختفى عن الانظار، إلا من عابري شوارعها وطرقها السريعة قبل انتهاء الزمن المحدود.. تحين ساعة الحدود.. تضطرب الأصوات لتعلن أنها أنقى المدن، وأنها مدينة الرحمة، وأنها مدينة تجمع أحاديث الناس لليل قادمٍ مجهول»، وفي وصف الفراق الذي دب إلى البيوت برحيل عزيز عنهم: «ترى الباكين لا صدور تضمهم، ولا أيادي تربت عليهم فتشدهم إليها، الكل في خوف..والخوف يشق المسافات بين النّاس، ويدفعهم إلى التباعد أكثر فأكثر.!»، أما عن الفارق الشعوري بعد عودة بطل الرواية إلى ما اشتاق إليه في يومه، ومن ذلك صلاة الجماعة، يصف شعوره حينها بقوله: «خمسة وسبعون يومًا مرّت بانقطاع عن هذا المكان الطاهر! كيف تغيرنا؟ كيف ابتعدنا؟ لا شوق للقاء طويل أجله.. بل ابتعاد وتباعد بعضنا عن بعض، حتى المصافحة تؤذينا ! كم هي أكفنا حزينة على انكفائها بعضها عن بعض، لماذا نحن صامتون بلا خشوع؟ لم نصلّي دون خنوع؟ أشعر اننا نصلّي شوقًا للمكان، لا للصلاة جماعة». بينما كان مسار الرواية يزداد غروبًا وظلمة، لاحت إشراقة الترحال بعد طول الحلول، وسارت المركبة التي تحمل الصديقين، حيث بطل الرواية أحدهم، طريق بريّ يمتد غربًا إلى جبال السروات، مرورًا بالأماكن وحكاياها، مع رفيق يحسن اختلاق الإثارة، والموازنة بين سرد الحكايا والنقاش حولها، تنتظم الأماكن التي تتابعت على طول الطريق، كلّ منهم يمسك بصورة عنه، يهديها إلى المسافرين في قصة أو موقف أو ذكريات لم تنسَ، وصلوا لمدينة الطائف، استقرت الرحال، تناوبت المشاهد البصرية على خلق التنوع الجمالي، بين جمال الأجواء، ووعورة الطريق، وأسرار تحكى في مكان حدوثها، بصوت خفيض، وعين تتسع دهشة مما رأت وعايشت، قضى الدكتور خزيمة مع رفيق سفره أيامًا حافلة بين المنتزهات والذكريات، حيث كل مزار له في الذاكرة حديث ينبثق أو موقف يستحضر بكل مشاعره ومفارقاته عن الحاضر، بل حتى العادات الاجتماعية التي تلزم بإكرام الضيف ودعوته، كانت فارقة هذه المرة من لحظة اللقاء التي أدخلت فيها عبارة «السلام نظر» مرورًا بطريقة الجلوس والتباعد الاجتماعي، وانتهاء بتناول الوجبات بطريقة تمنع انتقال العدوى، وتعيد إلى الأذهان أحاديث المسنين حول الجوائح المشابهة التي مروا بها وكيف كانت سببًا في تغيير الكثير من العادات والعبارات، ورغم كل ذلك الحذر، مررت بهذه العبارات: «بين اليقظة والنوم، شعرت أني... أحتاج كثيرًا إلى الكلام، أحتاج أن أتحدث عن نفسي، ... أحتاج أن أكتب عن كل شيء، لكن طاقتي لا تتحمل، .. بدأت تتهاوى، بسبب الحرارة والإنهاك»، هنا حيث ارتسمت معالم المخاوف التي كانت بعيدة، أصبحت حاضرة بوجع، الشعور.. بأن الوباء الذي اختار الانقضاض على جسد الدكتور خزيمة ورفيقه بعيدًا عن أهلهم، وقوة آثاره التي تتزايد مشعرةً كل واحد منهما أنه يعيش أيامه الأخيرة، حيث لن يستطيع توديع أحباءه، ولن يقام له حتى العزاء خوفًا من العدوى، في تلك الحالة التي لا تكون فيها كلمة «النتيجة: إيجابية» تحمل الخبر السار والإيجابي، ينتقل الدكتور خزيمة إلى الحد الفاصل بين الوعي والحلم، ترتسم مشاعره حاضرة أمام عينيه المجهدة من وقع المرض، يستحضر أمامه الشخصيات التي جسدها في كتبه لتحاوره بينما لا يملك القدرة على الرد عليها، تفاصيل وأخرى.. تبين اختبار الأزمة الصحية تلك مدى صلابته النفسية أمام القلق الجاثم على جسده، بالتزامن مع إعياء المرض، ومخاوف الرحيل، وأسئلة الوجود وحيرته. أبرز هذا النص الفريد، أجناسًا متعددة من أصناف الأدب، كان سمتها البارزة ارتباطها بمحور السرد، حيث يأتي لكل قصة تمهيد حول بناءها الموضوعي، وأبرز القصص القصيرة التي وردت: «مؤذّن، فنجان ابن ووهان، الخيبات، لذائذ الساعات العشر، قلق من يوبي، الهاجرة، الحمّى، بكاء الجدران»، واستحضرت في سردية الرواية شخصيات تاريخية منها: «عريب، وشارية - مغنيتان من العصر العباسي -، والشاعر أبي العلاء المعري، الشاعر يحيى رياني، الشاعر عوض بن يحيى العمري»، وغيرهم من منظومة الأسماء والشخوص التي نسجت ضمن قالب النص، بدت باهية، مكتملة، موثقة لعصر الجائحة، ومشاعرها، وأحداثها، مع تضمين وصفي وشاعري للمكان، أكسبه وهجًا عطريًا كرائحة المطر، وأشجار العرعر، والأفق البعيد الذي تغيب خلفه شمس الرواية في صفحاتها الأخيرة، تخفت السطور كشعاع الغروب حتى السطر الأخير، في حديث الصديق الرفيق، عن صداقة نادرة، عميقة، وجدت لتكون أطول من عمر أبطالها، وقصتهم.