دكان «الظهيرة»
طرقت خطاه شارع الظهيرة المتفرع من شارع الشميسي بتؤدة، يعد المارة ويتفحص ألوانهم وثيابهم وما من غريب عنه، فالكل معروف الكنية أو مألوف السحنة.. شارع الظهيرة الذي تقطعه أزقة ضيقة ذات مداخل ملتوية تمثل عوادما للغط الأطفال وعبثهم حتى يحين موعد الغروب فيكتم الشارع أنفاسه ويسلم الأبنية الطينية الناهضة على ضفافه إلى وحشة يمتد أمدها إلى قبيل الفجر. وفي يقظته الصاخبة ليوم جديد ينفض غبار ليلته الفائتة تحت الأبواب الخشبية وفي صدوع جدران اللبن والطين التي وقفت شاحبة عدا بنايات تنم عن رفاه قليل، منها بيت أبوتركي، ذو الجدران المحلاة بالجص الأبيض، والنوافذ والأبواب المزينة بزخارف نجدية سرقت ألوانها من الفياض القريبة. هذا الشارع الآنف الذكر لا يخطئه العم ناصر ولو ثقب الزهايمر ذاكرته يعرف رائحة الفصول فيه وعرق جدرانه المعجونة بسواعد الآباء. في المساء يضبط وقته على سماع صفارات العَسس، وفي الصباح يعلم أنه لابد أن يفتح باب دكانه قبل انتشار رائحة القهوة المنبعثة من مجلس «أبوتركي» مالك البيت والدكان، وإذ كان الدكان حجرة مقتطعة من «بطن الحوي» فقد كان له باب من داخل البناء يوازي باب الدكان المشتهر في الحارة باسم «بقالة أبوتركي» ورغم ضآلة مساحة هذه الأخيرة فقد كانت تحمل عبئها باقتدار تجاه مصروفات المنزل التي وزعها أبوتركي بحكمة، فهي تغطي دهم أضيافه وما زاد فجزء يخرجه بتكتم شديد كمؤن لبعض المعوزين في الحارة والجزء الآخر يقيد في دفتر المشتروات بعهدة العم ناصر لتنمية رأس مال الدكان أما بقية روافد ميزانية «أبوتركي» فقد اضطلع بالحصة الأكبر منها تاكسي تركي والغرفة الأخرى المؤجرة... على ضخامة هذه المسميات التي يضبط بها أبوتركي مصروفاته فإنها لأرقام ضئيلة إذا ماقيست بكوب قهوة يقدمه أحد أحفاد العم ناصر قرباناً للشروق والغروب!! وقف العم ناصر أمام الدكان تحت لوحة حديدية مؤطرة بطلاء أزرق كتب عليها بخط الرقعة «بقالة أبوتركي» وقبل أن يسند ألواح الباب الخشبي إلى بعضها البعض، تأمل مكان عمله باعتزاز، لو نطق هذا الدكان ليفضي له بما يكنه من حب عظيم وعرفان، وأنه لا ينسى سنوات الشقاء التي قضاها معسرا فبدل الله العسر يسراً، حتى انفرجت حلقات الدنيا العبوس واحدة إثر أخرى. عرف العم ناصر عبر هذا الباب الخشبي الضيّق الذي يفتحه صباح كل يوم ولو أتم عشرة أعوام أخر لبلغ نصف قرن من الزمن، عرف خلاله من أحوال ساكني شارع الظهيرة وما التصق به، ما لم يعرفه أصحاب الأبواب الكبيرة من وجهاء الرياض . نعم عرف الشيخ محمد الغني سابقا، الذي لبس الأسمال بعد أثواب العز والجاه، وأم متعب المتعففة التي لا يخطر على بال أحد من قاطني شارع الظهيرة حاجتها، عرف حمود والعياذ بالله يبيع الحرام ثم يتشدق ضحى في مجلس أبوتركي بالتقى والزهد ولزمته الشهيرة التي يقطع بها حديثه: «الله لا يواخذنا» وعرف الكثير الكثير من الأسرار التي تملأ أرشيف مخفر صغير يشبه المخفر الذي خرج منه لتوّه فسأله المأمور تسليم مفتاح الدكان فتشربت عيناه الدهشة... لماذا... ما السبب... من يطلب هذا...؟! أجابه المأمور بأدب: يا عم ناصر ما الداعي لنبش هذه الأسئلة...؟! لعل تركي وأخواه مطلق وسعد ليسوا على وفاق، وسواء طلب مفاتيح الدكان تركي أم مطلق أم سعد.. قاطعه العم ناصر برباطة جأش مصطنعة: سعد مستحيل، أنا من رباه، وترعرع ودرج أمام نظري وكنت أرافقه أعوام دراسته عبر الأزقة فلن يفعلها.. وتركي صديقي وأخي الصغير شهدنا سويا إعسار والده المرحوم قبل يسره وهو شاهدي، فلطالما سمع المرحوم يردد: «إذا أخذ الله أمانته فلا يباع الدكان حتى يخير صبيّنا ناصر» أما مطلق فأنت تعرف حاله. أجابه المأمور بأنه ليس آخر الدكاكين في شارع الظهيرة، ثم استقام واقفا ينهي حديثه. خرج العم ناصر لا يشك أن المأمور تظاهر بإنشغاله خشية أن تفلت أدمع العم ناصر أمامه، ولكنها الآن تترقرق على أخاديد وجهه المتغضن أمام باب الدكان. جلس هناك على صندوق خشبي كان فيما خلا يجمع قوالب الثلج بداخله كانت يداه حتى تتيبسان فيمسك زجاجات المشروبات فاقد الإحساس يوزعها في هذا الصندوق بطريقة عرض تلفت إنتباه الأطفال والكبار على السواء.. أخذ يقلب الأفكار ويفصل التهم ويصرف أحكام البراءة. التاكسي يأخذ وقت تركي فلا متسع في يومه للدكان. وسعد أعطى التعليم وقته وفكره. بقي الاسم الأكبر في دفتر المديونية لهذا النمّام مبارك، لعله سوَّل لتركي ما كان يردده عليه دائما، ولا مكان لمشروعه ذلك في شارع الظهيرة.. صحيح أن تركي طالما قاسى الأمرين لترقيع إطارات التاكسي، فهل أنسته حلاوة الفكرة وحاجته إليها، وعد والده لي؟! لا أظنها من تركي فلو جاءت الكارثة لجاءت من سعد، طالما فتحت المدارس عقول هؤلاء بأفكار شيطانية!! رحم الله أبوتركي لم آل جهدا في نصحه بأن المطوّع أولى وأعم بركة من هذه الأبنية الحديثة.. قطعت هواجس العم ناصر خطى «هيا» بنت أم محمد حافية تضرب بقدميها الصغيرتين رمضاء الشارع لأمر جلل، فزواج أخيها غدا وبخور أم تركي ضرورة ملحة وقفت «هيا» الصغيرة تردد المحفوظ بأنفاسها اللاهثة وخصلاتها الشعثاء. فأجابها العم ناصر بمرارة: قولي لأمك لتتق الله فقبر والدهم لم يجف بعد... ثم تنهد يردد: نعم دنيًا تدور.. توزع الضحكات والبسمات بالتساوي مع الغصص وجرعات الحزن. «هيا» بذكاء فطري استمدت من محفوظها الذي لم ينفد بعد: أم تركي بلغت جميع الأسر في الظهيرة كله بأن من أراد البخور واللبان والحوائج يطرق بابي متى شاء. ساعدت «هيا» الصغيرة العم ناصر في حل أحجيته، فأم تركي هي اللاهثة خلف الدكان لتبيع فيه حوائجها...!! نهض متوجها إلى الباب يردد: الله المستعان.. الله المستعان لا ذمة، لا حفظ عهد، لا حرمة لميت.. بعد أن أخذ البخور، ابتدرها في حزم: اليوم العصر اجتمع معك والأولاد.. لا بد من حضورهم. - تركي مشغول يا ناصر كل يوم يُبخس في الحراج - لماذا الحراج؟! أم تركي: يبيع التاكسي..!! وقبل أن تعقد الدهشة حاجبي العم ناصر، تابعت: وأعلم أن فلوس التاكسي لا تفي دين المرحوم، لذا قبلت عرض الضابط لشراء البيت، لأني أفضل النوم على تراب شارع الظهيرة على أن أترك ذمة أبوتركي معلقة. العم ناصر: ضابط؟! أم تركي: ضابط المخفر. هرول العم ناصر كالمفجوع إلى هذا المنافق يتمتم: شرطي عسكري ضابط.. دكان الظهيرة لن يفلت. قال الضابط: على رسلك ياعم ناصر، الدكان ليس لي غرض فيه.. صاح العم ناصر: الدكان جزء من البيت...؟! الضابط: ولا البيت...!! وأكمل بعد أن عقد لسان العم ناصر بكلمته الأخيرة، أنا في الحقيقة - وأحنى على أذن العم ناصر - مقصدي أم البيت والدكان.. ثم أسهب في الحديث وفتح قلبه الذي علق أم تركي منذ غضاضته الأولى، ولكن الأقدار حالت بينهما.. العم ناصر الذي لم يستمرئ قصة الحب هذه استمر مرخيا أذنه فاغرا فاه يرسل تكبيرات طويلة ممدودة.. الله وأكبر عليك، البيت والدكان، وأم تركي، والبخور…!! وأطرق يحدث نفسه: كيف صرفت كل هذا الحب لدكان بغيض…؟!