الاستشراق..!
عند النظر إلى لفظة “استشراق” نجد أنها مصوغة على وزن استفعال، ولوجدناها مأخوذة من كلمة شرق، ثم أضيف إليها ثلاثة حروف، هي الألف والسين والتاء، ومعناها طلب الشرق، وليس طلب الشرق سوى طلب علوم الشرق، وآدابه ولغاته. وعرفها بعضهم بأنه: “ذلك العلم الذي تناول المجتمعات الشرقية بالدراسة والتحليل من قبل علماء الغرب”[1]. إن الصلة بين اللغة والاستشراق صلة وثيقة حتى بالغ أحدهم في هذا التقدير فذهب إلى أن “الاستشراق علم يختص بفقه اللغة خاصة”[2]، والمستشرقون ينطلقون في دراسة اللغة العربية وآدابها من المناهج التي تدرس بها لغاتهم. فمن الناحية المنهجية الاستشراق يطبق على الإسلام ولغته، وعلى المؤلفات العربية التي يشتغل بها المعيار النقدي نفسه الذي يطبقه على تاريخ الفكر في بلاده، وعلى مصادره. إن الدراسات اللغوية عند العرب لها قيمة كبيرة، فهي حلقة مهمة في سلسلة العلوم الإسلامية “وقد عدها فايس على درجة من الأهمية لمن أراد أن يقوِّم الحضارة الاسلامية، بل ذهب هذا المستشرق إلى أبعد من ذلك فنوه بأهميتها التي تتجاوز دورها الكبير في تاريخ الدرس اللغوي بعامة، إلى مكانتها في دراسة تاريخ الفكر الإنساني على الإطلاق”[3]. وهناك دوافع عديدة لإقبال المستشرقين على تعلم اللغة العربية، منها: - الدوافع الحضارية. - الدوافع الاقتصادية. - الدوافع التنصيرية. - الدوافع العلمية والثقافية. لقد أدرك الاستشراق بما له من معرفة بقوة تأثير اللغة العربية في السير والحركة والتقدم، وبما له من صلة بعلومها وآدابها وفنونها، وبما له من دراية لقرآنها وعروبتها وتراثها، فقرر أن يتناول السهم ليصوبه في قلب أصحابها ليرديهم قتلى[4]، لقد كان في تركيز الجهد الاستشراقي على دراسة الجوانب الحضارية الإسلامية أكبر عون في السيطرة على الأمة الإسلامية وتسييرها على النحو الذي يريدون، ولكن غرضا كهذا لا يتأتى تحققه ما لم تدرس العربية دراسة مستفيضة بوصفها لغة الدين الإسلامي. فأقبل الاستشراق على دراسة لغة المسلمين، وأعلن المستشرقون هجومهم على اللغة العربية بتلفيق الشبهات حول أصالتها في التاريخ القديم، والعصور العربية الأخرى، كما اتهموها في العصر الحديث أنها لغة عاجزة عن الوفاء بمتطلبات العصر الحديث، وغير قادرة على مواكبة التقدم العلمي والتكنولوجي[5]، ووصل بعضهم الأمر إلى اعتبار اللغة العربية لغة ميتة، مثلها مثل اللغة اللاتينية بالنسبة للغة الأوروبية الحديثة، وبأنها لغة دينية بمعنى أنها تستخدم في المجال الديني وفيما يتعلق بالعبادة ولكنها لا تصلح كلغة للحديث والكتابة تشبيها لها ببعض اللغات الدينية القديمة، والتي انحصر مجال استخدامها في المجال الديني، ولم يعد لها استخدام في الحياة اليومية مثل السريانية وغيرها[6]. ومن أجل هذا دعا المستشرِق الألمانيّ “ولهلم سبيتا” الذي عاش في مصر طويلًا، ووضع كتابه: ((قواعِد اللُّغة العربيَّة العاميَّة في مصر)) سنة 1880م، إلى نبذ اللُّغة الفُصحى، واستخدام اللُّغة العامِيَّة بدلًا منها، ثُمَّ ناصره على ذلك مِجَلةُ (المُقتَطَفِ) برئاسة صاحبها يعقوب صروف، وتبنَّى رأيه بعض العرب؛ أمثال: مارون غصن، وأنيس فريحة، وسلامة موسى، ولويس عوض، ورفاعة الطَّهطاوي، وسعيد عقل، وأحمد لطفي السَّيِّد، وغيرهم، إضافة إلى بني جنسه منَ المستشرِقين الذين لهم نفس الهدف المَرجوِّ. وقد دعا ذلك المستشرِقُ إلى إحلال الحروف اللَّاتينيَّةِ محلَّ الحروف العربيَّةِ، بداعي أنَّ الحروف العربيَّةَ يختلف نطقها كثيرًا باختلاف الحركات ونحو ذلك، بخلاف اللَّاتينيَّة، التي هي ثابِتةٌ -في نظره- بعض الشَّيءِ [7]. لقد حاولت الوقوف على ظاهرة الاستشراق التي كان لها الأثر العظيم في العالم الغربي، وفي العالم الإسلامي على حد سواء، وإن اختلفت ردود الأفعال على كلا الجانبين، وقد شرعت في بداية هذا البحث في حد هذا المفهوم من حيث اللغة والاصطلاح، إذ لا مشاحة في الألفاظ والمصطلحات، وفد تبين لنا من خلال التحليل لهذه الظاهرة أن المواقف الاستشراقية إزاء تراثنا العربي بشكل عام، واللغوي على وجه الخصوص قد اشتملت من غير ريب على بعض الجوانب الإيجابية التي يجب أن تذكر لبعضهم نحو جمعهم للمخطوطات وصيانتها، ووصفها، وفهرستها، ووضعهم لدائرة المعارف الإسلامية التي غرف من معينها علماء العرب، كما كان لهؤلاء باع طويل في مجال المعجمية، وقد تطرق لموقفهم السلبي من التراث العربي، وذلك مثل تشكيكهم في أصالة النحو العربي، ونفيهم لظاهرة الإعراب، وإنكارهم لوجودها أصلا في لغة الضاد رغم أنها صفة من صفات العربية، وسمة من أقدم سماتها اللغوية، كما اهتم هؤلاء بكتب اللحن دراسة وفحصا، وذلك من أجل الدعوة إلى العاميات على حساب الفصحى، واصفين هذه الأخيرة بالتعقيد والصعوبة، وعدم مواكبتها مستحدثات العصر. —————— [1] ينظر: ساسي سالم الحاج: نقد الخطاب الاستشراقي، ج1، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2002، ص20. [2] ينظر: المستشرقون والمناهج اللغوية، اسماعيل عمايرة، ص 16، دار حنين عمان، ط 1992م. [3] ينظر: المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية، إسماعيل عمايرة، ص 14، دار حنين عمان، ط الثانية. [4] ينظر: فلسفة الاستشراق وأثرها في الادب العربي، ص 668. [5] ينظر: آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الاسلامية، محمد خليفة حسن، دار الشروق، ط الأولى، ص 119. [6] المصدر السابق، ص 120. [7] ينظر: الاستشراق وجه للاستعمار الفكري، ص227.