د.حسن حجاب الحازمي في المجموعة القصصية أمس ..

بين الالتفاف الزمني والواقع الخاتل.

( هنالك وجهٌ آخر للحقيقة نادراً ما نوقف التفكير فيه، وهو إحساس أدمغتنا بالزمن الذي غالباً ما يكون إحساساً غريباً جداً، ففي بعض الأحيان يبدو واقعنا يسير ببطء أو بسرعة غير حقيقية ) ديفيد إيجلمان • تتربعُ المجموعة القصصية (أمس )، للدكتور حسن حجاب الحازمي، في الرتبة الرابعة عقب ثلاث مجموعات سابقة، وهي على التوالي التاريخي، (ذاكرة الدقائق الأخيرة ) الصادرة في العام 1413 هـ، بعدها المجموعة الثانية (تلك التفاصيل ) الصادرة 1421 هـ، والمجموعة الثالثة هي (أضغاث أحلام ) الصادرة في العام 1434 هـ، وهذه المجموعة الأخيرة (أمس ) الصادر في العام 1441 هـ . يلحظ في تعاقب إصدار المجموعات القصصية أنها في مدى زمني متباعد في فارق جلي، وتعدُّ هذه المحاولات وتحديداً الأخيرتين من الأعمال الجادة ذات الإصرار على ترسيخ فن القصة القصيرة بأنواعها في المملكة العربية السعودية، و لإعادة الاعتبار الفني والتأصيلي لها في زمن تضاءل بعض إنتاجاتها مقارنة بالمد المتواصل من الرواية في السعودية، فحسب ما ذُكر في كتاب [ القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية ]، الصادر في العام 1440هـ، وهو بالمناسبة للدكتور حسن حجاب الحازمي، أن عدد الروايات الصادرة في الألفية الثالثة بلغ تقريباً 1154 رواية، وبلغ عدد إصدارات القصة القصيرة الصادرة في ذات التوقيت نحواً من 800 مجموعة قصصية، اعتماداً على الإحصائيات السنوية التي يصدرها الأستاذ خالد اليوسف . مارست المجموعة (أمس ) النوعين من القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، وهي كما في عتبة المجموعة (أمس )، وكذلك في الإهداء قد اتخذت من الزمن مداراً مهيمناً فيها، فالإهداء يقول : (إلى أمس الذي رحل، وإلى أمس الذي لن يعود )، أمس الذي هو في ثقافة العرف العربي هو أمس الدابر أو أمس المدبر . والحقيقة أن أحداث أمس قد رحلتْ، سواء كانت في ألأمس القريب أو في الأمس البعيد ؛ لأن صيغة التنكير ترمي إلى التعميم الشمولي وتعني عدم التحديد بأمس أنه اليوم المتعين الذي سبق يومنا فقط، ولكن تبقى آثار تلك الحوادث، بل قد تستقر أزماتها وتستفحل في النماء والزيادة وفي الخطورة، وربما تدوم هذه المخلفات، فالماضي لا يتخلى عن رواسبه في الذوات كما قال زُفَر بن الحارث : وقَدْ يَنـْبُتُ المَرعَى على دِمَن الثَّرى وتَبْقى حَزَازَاتُ النفوس كمَا هيا . إذن كثيرٌ من الوقائع حدثت في الماضي، ولكن قد ترسبت دلائلها، فالماضي يبقي في صغرى صوره ويستدام حتى في أدقِّ تفاصيله، فلا وجود للنسيان الكلي ؛ لأن النسيان مؤداه فقدانٌ للذاكرة، والطبيعي أن الأمس مختزنٌ، وليس علينا، لو أردناه بطلب واستدعاء، إلا أن نلتفت خلفنا كي نراه ماثلاً في حياتنا . والمجموعة تتفلت من عبئها الزمني بتقنيها الخاص عبر استراتيجية اتخذت من آلة الزمن كرسياً متأرجحاً بين استباقات بشكل كثيف وارتدادات للماضي بصورة قليلة، مع مكوث في الحاضر أقل، وحتى نص المجموعة الأول الذي عنوانه (أمس ) لم يترسب على مقعد الزمنية الماضية فحسب، وإنما تسارع زمنياً نحو الأمام من قادم الزمن : (سأعيد ترتيب زمني . . . لن أمدَّ إليكِ يداً مرتعشة، وأصافحك بكفٍ غارقة في العرق والتردد . لن أسمح لكل تلك الأعين في صالة الانتظار أن تقرأ فرحة الطبيب وربكة الزائرة . لن أسمح لكفك أن تنسحب بكل تلك السرعة، سأتركها تستريح طويلاً في كفٍ هادئة غير مرتبكة، كانت تنتظر منذ شهر هذه المصافحة، سأترك لأصابعك فرصة الحديث، ولأصابعي فرصة طويلة للإنصات . ) ثم يكمل النص من أحلام يقظته ومن نجواه الداخلية لذاته : (آ آ آ ه من أمس ! ! سأعيد ترتيبه اليوم : لن أسمح لك أن تغادري هكذا بلا وداعٍ يليق بك . سأستوقفك، سأوقف اندفاع اعتذارك، وسرعة الأخبار المتدفقة في حوارك ) . أجدني غنياً عن تبيان مدى سيطرة المهيمن اللساني هنا، فالزمن الاستقبالي طاغٍ في سطور المقطع، واستمرت هذه الأسلوبية في سائر النص، وحتى في النص الثاني في المجموعة (أمنية ) وتحديداً في المقطع الثامن : (حين دخل أخوه بعد مغادرتها رأى شخصاً مختلفاً، رأى وجهه متورِّداً بالحياة، رأى نفسه أكثر انتظاماً، رآه يجلس في سريره لأول مرة بهذه الصورة منذ أكثر من شهر، لكنه بدا كأنه غائب عن الوعي، تحدثتُ إليه فلم يسمعه، كان يتابع طيفها الذي غادر، ويستنشق عبيرها الذي بقي، وحين صاح به أخوه : هييييه نحن هنا، انسل في فراشه متدثراً وقال لأخيه هامساً : قل لهم أن يغلقوا هذا الجهاز اللعين، وأغمضْ عيـنيَّ أغمضهما . ) ولعل أوضح شاهد قدمته المجموعة هو النص المتميز بالطول، وهو الذي بعنوان (إيضاح )، وهو خير دليل على قدرة النصوص على التشبث بالاختيارات الزمنية المتعددة، قد يكون الزمن الحقيقي متدانياً، ولكن الحالات ذات الاصطدام الانفعالي، وذات الأزمات العاطفية من هول سرعة الصدمة وبسبب ذهول الدهشة بالواقع المصطدَم به فإن الإدراك الذاتي لكل ما جرى سيغدو بطيئاً، وكل ما يستجدُّ من أصوات، وكل ما يجري من أفعال، وكل ما يطرأ على المدخلات الحسية سيصبح في ازدياد متصاعد ولكن المدى الزمني ثابتٌ ولا ينقص ولا حتى يزيد، فقط الشعور بعلو كمية الأحداث والإدراكات التي تظفر بأعلى مستجدات هي التي تعطينا انطباعاً زائفاً وخادعاً بسراب الكثافة الزمنية، وهذا طبيعيُّ، وعندها ستشعر الشخصيات وكأن المعطيات الحاصلة قد تحققت في حركة زمنية مضاعفة وبطيئة، وهذا أقرب إلى التشوه الزمني، وفي مثل هكذا حالات ينشأ إحساسٌ ذاتي زائف ومتوهم بتباطؤ التقديرات الزمنية، حتى كأن الحوادث المفجعة والإصابات العاطفية تحدث بالحركة المبطأة، ومكمن ذلك التضليل في طريقة الذاكرة الفردية التي تخزِّن المعلومات الصعبة والبيانات الحادة والمواقف الضاغطة، فالذاكرة ترصد وتسجل في صورة من الاحتشاد الهائل كل التفاصيل الصغيرة والمتناثرة في سرعة كبيرة جداً مقارنة بالتدوين التسجيلي للذاكرة في الأوضاع الطبيعية والمعتادة والمتراخية، إذن الذاكرة في حال الطوارئ تشتغل بجهد مكثف ومضاعف لتتبُّع الأحداث التفصيلية الدقيقة والكثيرة، والذاكرة الحافظة لهذه الوقائع تريد التزوُّد بنسخة كاملة للمواقف الطارئة والصعبة بشمولية تامة بحيث لو تكررت نفس المواقف فإن الدماغ لديه تصورٌ مكتمل عن الموقف وبكافة الحشد المعلوماتي المختزن سابقاً، وعليه سيجدُ الدماغ حينها أريحية في تعامله مع الطارئ الجديد، فقط سيختار الدماغ ألطف الحلول وأنسب البدائل وأنجع الوسائل خروجاً من المآزق و المواقف الضاغطة، وكلما كان الموقف حرجاً وضيقاً على الشخصية كانت الذاكرة في وضع طارئ للعمل بأقصى مجهوداتها وستكون الذاكرة في قمة فاعليتها لاقتناص كافة التفاصيل المعلوماتية ولتدوين كل البيانات للرجوع إليها مرة ثانية لو وقع الموقف ذاته ؛ ولهذا كانت الشخصيات،في المجموعة وبالتحديد في النصوص (أمس، أمنية، شوق، إيضاح ) وهي أساس وعماد المجموعة، وأهم نصوص المجموعة، قد تعرضتْ لمواقف طارئة و تعرضت لحالات ضاغطة فاعتمدت على ذاكراتها الفردية في معالجة تلك الأوضاع الحادة والصعبة، فكانت المحصلة الشعور الدائم بالتباطؤ الزمني في سرد تلك المواقف وفي تذكر الأحداث وكأنها تمرُّ بالحركة البطيئة مع ثبوت الخط الزمني طبيعياً كما هو دونما خَتَلان من الذاكرة الحافظة، والخَتـْل هنا مُتَأَتٍ من تدوين الذاكرة لعموم التفاصيل صغيرها وكبيرها ثم سردها، فأخذت مساحة كتابية أكبر ولم تأخذ، في الحقيقة والواقع، وقتاً إضافياً ممتداً في الخط الزمني الحقيقي، والخَتْل آتٍ كذلك من الإدراكات المصاحبة للأحداث فهي التي تضللنا فتشعرنا بالسعة الزمنية وتجعلنا في احتجاب من رصد الزمن الحقيقي والواقعي . ولعل الفحص في تقييمات الشخصيات لواقعها المعيش يرصد لنا، وبالذات في قسم القصة القصيرة ابتداء، غبشاً وغموضاً، وكأن الشخصيات تلمست استكشافاً مشوَّشاً و وهماً خاطئاً، وهو ما يعرف عند هنري برغسون بالتعرف الخاطئ للواقع الخارجي، فالشخصيات : الطبيب في نص (أمس ) تعطي تصوراً متوهماً عن واقعها، وهذا الواقع الذي تقدمه الشخصية مبتنى على الاستيهامات وأحلام اليقظة وعلى ما توهمته الشخصية من خيالات خاتلة وخادعة، ولذلك ستتفاجأ الشخصية هنا بموقف حاد وصاعق من الآخر المعشوق، وخاصة حينا قالت له : (عفواً دكتور، أعرف أنك مشغولٌ، لكني جئتُ لأودعك، سأسافر إلى أمريكا، جاءت الموافقة على البعثة . مبروك ألف مبروك، إيميلي معك تواصلي معي وطمنيني عليك . كأني مخدَّر، كأني لستُ أنا، وقفتُ في منتصف العيادة، أشيعك بنظراتي، وأنتِ تخطين آخر خطواتك خارجها بلا أملٍ في العودة، بلا أملٍ في مطلع الشهر القادم، كان بودي أن أجري خلفك، وأن . . . ) . نستطيع القول إن الشخصيــة في نص (إيضاح) خير تمثيل على أنموذج التقدير الشخصي الخاطئ للواقع الخاتل، وبالذات في هذا المقطع : (أغمضتُ على عيني لم أكنْ أتوقع ولا أحتملُ أن تقع لي في يوم من الأيام، أنا الشاب المهذب، مدرس اللغة العربية، المعلم القدوة الذي يحضر الماجستير، أتحولُ إلى قاتل !؟ غداً ستكتب الصحف في صدر صفحاتها الأولى وبالخط الأحمر : « مربي الأجيال يقتل رئيس بلدية في مكتبه من أجل خلاف بسيط على قطعة أرض» ) . بمثل هذا التقدير الخاطئ تعاملت الشخصيات في النصوص : (أمنية، وشوق، كمين، صور ) فقط تدرجت وتباينت درجة التفاجؤ لانكشاف سوء تقديراتها لواقعها أمام لحظة الحقيقة . فكل هذه الشخصيات تعاني حالة ارتطامها بواقعها المرير، وحتى في سائر النصوص الأخرى نجدُ الشخصيات في شرود من واقعها وفي اختباء في عوالم الرؤى والأحلام والمنامات، وقلما نجد الشخصيات الواعية بذاتها وقدراتها في التعامل مع خشونة واقعها وتنتصر عليه، إنما في غالب الشخصيات تلتبس عليها الحالات والتجارب فتخلط بين حالات تعيشها الآن وفي الزمن الحاضر مع مواقف مرتْ بها مسبقاً، أو كثيراً ما نصدف في بعض الشخصيات اختلاطاً بين واقعها واستيهامات متوهمة تعمل كملاجئ آمنة للذوات، وهكذا ظهرت الشخصيات في حالات ضعف وانهاك وفي أوضاع متزعزعة وبئيسة، ودائما كانت في موقع المفعول به تحت وابل من الظروف الناتئة و من الانفعالات الوجدانية فانزاحتْ من المعيش والحاضر الآن إلى أبعاد وأشتات اغترابية، فكان حصادها خاضعاً لمدٍ من التأثير السيكولوجي المتفشي فيها . والتساؤل ما جدوى معايشة أمسنا الدابر ؟ ! للإجابة نقول صحيحٌ أن الرؤية الإنسانية الفطرية لخط الزمن أنها رؤية بانورامية شاملة الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن المتوجب علينا عدم إعطاء أمسنا المدبر أكثر مما يستحق تقديرياً ؛ لأنه زمنٌ قد انقضى وتصرَّم وانتهىت فاعليته وانقطعت أوصاله وحبائله الخاتلة، ولا يتوجب علينا الالتفات كثيراً للوراء بل الواجب أن نعيش الآن والساعة والمأمل غيبٌ، وأن نتطلع قدماً إلى الأمام دوماً، وأما إطالة النظر للخلف فإنها كثيراً ما توصل إلى الإعثار وكثيراً ما تؤدي إلى المبالغة والغلو في سوء التقدير للماضي السلبي، فنقع في خَتَلان واقعنا وفي الرصد الخاطئ لواقعنا، والرؤية الدائمة للخلف تعني التخلي عن مبدأ حق العيش في الآن والحاضر وفي المستقبل، وتعني التنازل عن الاعتناء بحقوق الحياة الكريمة.