قراءة في مختارات عبد الكريم النملة (للزهور أمنيات)..

توغّل في وعي الشخصيات، انحسار الحكي وانهمار الوصف ملكة التصوير وشاعرية التعبير،القصة القصيدة ولغة البيان والوجدان.

يشير المؤلف في مقدمة هذه المختارات إلى أنها منتقاة من ثلاث عشرة مجموعة وأنها تعبر عن مشاعر و رغبات ودهشات الإنسان ، ويشير إلى أنه كان يجرّب إعادة خلق الحكايات على نحو ينجو به مما يكتنفه من ألم وعذاب وبؤس ؛ وهو يرى أن القصة رصد وتوثيق لحالة شعورية ما لتلامس مواطن الدهشة و الالتفات و الوعي ، ويوميء إلى أنه خاض لُجج بعض أحداثها وتماهى معها وعاشها إلى ان لملم النص أشتاته و بلغ رشده وصار قابلاً للبوح بما فيه على حدّ تعبيره. لقد رأيت أن أُلخِّص ما جاء في مقدمة هذه المختارات لأنها تلقي الضوء على رؤية كاتبها لمفهوم القصة القصبرة وغاياتها وصلتها الحيّة بكاتبها ، ولا أراه قد حاد عن المفهوم هذا الفن وطبيعته ؛ فهو فنّ الأزمة كما يُعرّفونه ، وهو يلتقط لحظات التوتّر ويعبّر عن جوهر التجربة في مفهومها الأصيل لدى كبار منظّريها . وسأحاول أن أتوقّف عند نماذج منها لعلّي أتبيّن بعض ملامح الرؤيا والجماليات التي تفصح عن نهج الكاتب وما تميّز به في مجموعاته (ثلاث عشرة مجموعة)التي اختار منها هذه القصص القصيرة و القصيرة جدّاً., في قصة (التئام) أولى قصص هذه المختارات تتبدّى ملامح الأسلوب الذي انتهجه في كتابة القصة، ومصداقية ما ذهب إليه في المقدمة من التقاطٍ للّحظة التي تلامس موطن الدهشة وشفافيّة الحسِّ الإنساني ، وموطن المفارقة التي هي مناط الشعريّة في التجربة الإبداعيّة بشكل عام ؛ فثمة ما هو مألوف ومفارق للمعتاد في بناء شخصبة المرأة العجوز(أندربا)التي كان يسكن عندها السارد ، فالبعد الطفولي والبراءة ولشغف بالحكايات و الولع بالمسلسلات ثم القيود الصارمة والألفة مع فارق السن، ثم اللحظة المضيئة للرؤية حيث تقارُب السن والهم المشترك الذي تمثّل في الانسجام التام مع |(آلار) العجوز التي كان يسكن عندها ،وإغفال وجوده حيث يصوّر بعمق ملامح الفطرة البشرية وطبيعتها ؛ فالسيدة أندريا - رغم رفقتها الحميمة له - وهو طالب غريب وشابّ فَتِي (مهما كان بينها و بينه من وئام) لا بد أن تنتصر لحقائق الطبيعة البشريّة التي لايمكن إغفلها (السن و الانتماء الوطني) وقد التزم الكاتب بجماليات القصة القصير االتي ترتكز على المثلث الأرسطي المعروف (البداية و الذروة و النهاية) ولم يغِفل لحظة التوتر و التنوير. في نقلة أخرى وتوجه مغاير في بناء القصة نلمح شاعرية متدفِّقة وحديث النفس يشعل اللحظة في ذروة توتّرها وقلقها ، حيث تنشطر الذات وتكون الرواية في شكل مخاطبة أقرب إلى البوح بين شِقّي الذات التي تتحوّل إلى متحدّثٍ ومتلقِ ، والآخر غائب عن الوجود فليس إلا الذات في احتدام مشاعرها والوقوف على حافّة الغياب ، فالمتحدّث أنثى موزعة الاهتمام بين وجود آفل على مقربة من الغياب وذات قلقة تبوح بفيض من مشاعرها ة هواجسها ، لون مغاير لما سبقه من أساليب السرد : بوح وترقب وارتداد إلى الداخل وترقب للحظة الفاصلة. في قصة (صقيع) وهو عنوان معبر و عتبة دالة . وفي تشكيلٍ جماليٍّ آخر في قصة (قبل أوانه) يستهل الراوي سرديّته بأساليب طلبية إنشائية ما بين نهي متكرّر وسلسلة من الأسئلة،وما يتلو ذلك من تعقيب يصف الحالة الشعورية للمتكلم الذي يحاور امرأة ويستطرد في الخطاب في وصفٍ منهمر بين حقيقة ما يدور في داخل الشخصية وانحسارٍ للحكاية في مقابل الوصف وتوغل في داخل الشخصيّة وتقرّي هواجسها ، ذبول وانطفاء حيث تصوّح زهرة الشباب، وتمثل المرأة في جسد فتاة ؛ قصة أشبه بقصيدة وتدفق في اللغة مقابل انحسار للحكاية لون آخر من ألوان السرد يتجلى في قصته (نحو الشمس) تبدو في شكل رسالة تسبقها فقرة استهلاليّة موجهة إلى امرأة اسمها (ليلى) محصورة بين قوسين ، ثم يليها المتن الرئيس موجّه إلى شخص لانتبيّن طبيعة علاقته بالساردة في القصة ؛ قصة قصيرة ذات شريط لغوي طويل سِمتُه الرئيسة تتمثّل في استرجاع لحدث مضى تحاول استرجاعه على نحو يوميء إلى طبيعة الني ترويه ؛ فهو حديث جوّاني - إذا صح التعبير- يتقاطع فيه الاعتراف بالبوح والسربالجهر وحديث النفس والتحليل و التبرير و التدفق الوجداني على نحو يلفُّه الغموض المشوق الذي يمضي فيه القاريء محاولاً استكشاف مجاهله واستنتاج مضامينه ؛ فيه يطغى التحليل و التبرير والتقاط المسكوت عنه حتى ليكاد يوغل في فيافٍ يوشك أن يتوه فيها القاريء ويضلُّ عن مسار الحدث ، ولكنه يتبين أن الكاتبة (الساردة) التي تحرّر الرسالة تعترف في نهاية المطاف بأنها هي التي اقترفت جريمة القتل ؛ ولكنها لا تقدم هذا الاعتراف ابتداءً؛ ولكنها تستدرج المخاطب إلى مربعها في إيقاع بطيء وكانها تستل كلماتها من أعماق معاناتها ، فتلتقط المشهد الذي تجعله بوابة الاعتراف ببطء فتستغرق في عملية الوصف في لغة وجدانيّة بيانيّة تتحول فيها الوقائع إلى صور تُجسّد إحساسها بها قبل أن تستكمل رسمها ، وتمتح الكلمات من بئر الذاكرة مشوبة بعواطفها واشتعال أحاسيسها ، وترتدُّ من وصفها الخارجي إلى هواجسها الداخلية ، وتعمد مع التصوير إلى التحليل “تحادثها لا تجد صعوبة في استدرار خباياها “ هكذا تصف العجوز التي تروي قصتها مستغرقة في وصف أحاسيسها تجاه كل حركة من حركاتها ،متأمّلةً لها مستنتِجةً ما وراء ذلك من قوة باهرة تمتلكها على حد تعبيرها ، في نَفَس شعريٍّ ملحوظ يتبدّى في لغة استعاريّةٍ تلانمس سقف الشعر “وهي تتمرد على عرش صفاتها وصدقها” لغة تتداعى فيها الصفات التي تصاحب حركاتها وتتكرّر فيها المفردات ، وتنداح عباراتها على مساحة واسعة من التوصيف الدقيق لشخصيّة العجوز في حراكٍ مستمر تكاد تتلمّسُه في سلسلة الصفات التي تعبر فيها عن ىملامح شخصيتها في التوِّ واللحظة وتمتد لتلامس سماتها الشخصية القارّة وتنهض ، وهي – في هذه القصة - بعملية التفسير لحركة الجسد مستنطقةً ملامحها النفسية وقدرتها على خداع من تخاطبه ، لحظات التوتر تلك التي عاشتها الراويَة صوّرتها بدقة من يعيش اللحظات الحرجة بكل مشاعره في مفارقة مع لحظات الفرح لوالدتها والانتصار للعجوز؛ وهي تعمد إلى التخلص منها بالعودة إلى لوحاتها ، وهي إشارة إلى مزاج الفنان ودور الفن ، حيث يبدو الإبداع مُتَنَفّسَاً وإفراغاً للشحنات النفسية “ كعادتي أفزع إلى لوحتي كلما طرقني غبار الأيام و ضجيج اللحظات” وهي تُفرغ مشاعرها الحبيسة في سلسلة من الأسئلة حول طبيعة اللوحة التي ترسمها ، وتتساءل حول استخدامها للّونين الأبيض و الأسود في (البروتريه) الذي تُعدّه للرجل الذي تتحدث عنه ؛ ولعله زوجها أو حبيبها الذي تبوح بسر قتلها له ؛ واللونان يشيران إلى الشيء ونقيضه ، وإلى الصرامة في الشخصية كما توميء إلى ذلك.، وتبرز صورة الأب فجأة التي تبحر في مياه ذاكرتها كما تقول ، وما تشعر به من ألم لانكسار عينيه ، ولعلها تنتقم بالقتل الذي تؤكده بتكرار كلمة (قتلته) وفي لحظة التنوير تكشف عن الهدف من تلك الفعلة(قتلته كي أحفر ينبوع الحب في قلبي فيعم الأرض) قصة تمتحن ذكاء القارئ وقدرته على لم شتالتها المتشظية ما بين (المجهول و المعلوم) ، حوار الأم و العجوز و( القلق و البهجة و الانتصار) و شعور الفنان وغموض الوقائع ، وشخصية الأب الحزين والاعتراف بالقتل و مفارقته مع الحب ؛ إنها بنية التشظّي والغموض التي توميء إلى رؤية حداثية في فن الكتابة القصصيّة حيث تتفاغل اللغة الشعرية التي تكتنز بالمجاز ، ويتوقف السّرد ليتيح المجال أمام البوح وتتعالق مشاعر الحب مع إرادة الانتقام في انزياحات متعدّدة تنسج بنية القص ومغالبة الوصف. في منحى آخر يعمد الكاتب إلى الموازاة بين تضاريس المكان وسحنة الإنسان والتقاطع بين زمنين ؛ براعة في التقاط المشهد الجامع بين تبدّل الأحوال وثبات الطبائع و التطابق بين حقائق الباطن وتجلّيات الظاهر ؛ فنحن في قصة (بثّ) أمام تقاطعات حالين تتعامد فيهما المصائر : المرأة العجوز التي ترقد في المسنشفى وهي في ذروة تأزّمها مريضةً تكاد تلفظ أنفاسها المرأة التي عملت على انفصالها عن زوجها بعد أن أذاقتها الأمرّين ، استهل الكاتب القصة بوصف ظلمة الليل وتوقد الغضب حيث تتوازى المشاعر مع حلكة الظلام و رهبة المكان (المستشفى ورائحة المظهّرات وأجواء المرض) وما يغلي في مرجل الروح من عذابات الذكرى و وقدة الألم، لحظة التوتّر في ذروتها حين تقف الضحية وجها لوجه أمام الجاني ، حيث تسترجع المرأة مأساتها وتقرؤها على وجه العجوز التي دمّرت حياتها ، الاتكاء على الوصف الظاهر و الغليان الداخلي ، ومعادلة المشاعر بالمحيط المكاني حيث تتبدّى القصة وكأنها لوحة ناطقة عبر الوصف الذي يطغى على السرد. وفي قصة (ندم) يعمد الكاتب إلى اقتباس أبيات للسيّاب يخاطب فيها من يريد ممن لايملك القدرة على الفعل ؛ بل يناقضه و لا ينهض به ( السكارى الذين يسوّون بين البغايا و العذارى) و(الحطام البشري ومتعة الربيع) وهي عتبة غير مألوفة في هذا الفن الذي ينهض على الإيجاز و التكثيف ؛ ولكن الكاتب يعمد إلى انتهاج أسلوبه الخاص في تشكيل القصّة ، ملكة تصويريّة تستلُّ كلماتها من عمق المشهد المأساوي الذي يحتلُّ مساحة الإطار كلّه دون أن يترك للخلفيّة إلا ما له علاقة باشتعالات الداخل ، إبحار في أعماق الشخصيّة و تَجوال في مجاهلها وتجنيد لمفرداتها كي تجوس خلال عذابتها في حراك ينطق بما يجوس في ثنايا وعيها المهشّم ؛ أمرأة مأزومة تحترق في أتون انفعالاتها ، و طفلة تغزو منامها و يقظتها وتنتهي إلى الفناء في مواقد الألم ومراتع الندم ؛ فضاءات تنفتّح على مصراعيها للتفسير و التأويل. ثمة قصص قصيرة جدا في هذه المجموعة تأتي في أنساق منتظمة ؛ أوميء إلى نماذج منها ؛ ففي قصة (يأس) صورة وصفيّة حافلة بالحركة تتداولها جمل فعلية تلتقط المشهد في أوج فورانه ، وأخرى تقريريّة خبرية تكشف ملامحه المحيطة في تفاعل يفضي إلى إضاءة المشهد برمته . وأخري عنوانها (أسرار) تأتي في سياق سردي خبري ينهض على أركان القص الثلاثة ابتداءً بالموت يعقبه البحث في التركة حيث ذروة الحدث ثم الختام (خيبة الأمل ) في عبارة ناطقة ارتحلت الأسرار مع صاحبها : حكمة بالغة وإضاءة ساطعة , وفي قصة (انغماس) اصطياد للحظة البدء والتقاط لمفترق التحوّل ثم الغرق في جحيم التوتر ، من النقاء إلى التلوث فالضياع ؛ اختزال فيه تكثيف و تركيز و ثراء وضوء كاشف وعبرة بالغة ، وفي قصة محمولة على جناخي جملتين اثنتين تتبدّى أزمة الصراع بين الحقيقة و الرغبة في قصة (انتحال ) وفي قصته(خيانة) تعالق بين الكناية و الرمز حيث بُنيت على مشهدين يضيئان الظاهر والباطن ويحملان مفاتيح التفسير و التأويل : عودة مفاجئة كاشفة وعبور إلى ملامح الخطيئة ، ولوحة تلخص الرؤيا (الفارس الذي يعتلي صهوة الحصان الأبيض) تقاطع الحلم والواقع، وخاتمة ترمز إلى لحظة الكشف و الانكشاف والعطر الرجالي مفتاح الخيانة مفارقة صادمة ومشهد فاضح. وفي قصة (رغبة ) التقاط للحظة نفسيّة كاشفة تنطوي على مفارقة بين مقتضيات المظهر و أسرار المخبر ؛ فثمة وقار تقتضيه موجبات اجتماعية وحقائق نفسية رابضة في ثنايا الفطرة البشرية . مختارات جديرة بالدراسة و الاهتمام