في كتاب «المقهى الشعبي الدمشقي» لهلا قصقص..

توثيق لتاريخ مقاهي دمشق وأسمائها.

(إلى أرواح أجدادي الدمشقيين الذين ناضلوا على مدى ثلاثة قرون من أجل انتشار القهوة… وإلى جدران المقاهي التي حفظت قصص عنترة وأبي زيد الهلالي عن ظهر قلب، وشهدت حوارات كراكوز وعيواظ في ليالي دمشق المنسية) كتاب ماتع، كاتبته هلا قصقص متخصصة في فنون العمارة، وتبدو عاشقة لمدينة دمشق. وهي تتحدث عن المقاهي منذ أن حلت القهوة في دمشق، فاستطابها الناس وجعلوا لها أماكن يجلسون فيها، وما تطورت إليه أحوال المقاهي واكتسبته من عناصر جذب للناس، وكيف أدخلت على المجتمع أنشطة لم تكن معروفة في السابق، مما أتاح للمناشط الثقافية والفنية مكانا يحتضنها ويحتفي بها ويجمع لها مريديها، ويترك بصمتها على المجتمع. دخلت القهوة الى دمشق قادمة من مكة في القرن السادس عشر الميلادي، حمل هذا الشراب اسما مشبوها، فالقهوة اسم من أسماء الخمرة، إذ تشترك معها في إقهاء النفس بمعنى صد رغبتها في الطعام، أول من حملها معه إلى دمشق كان الشيخ بديع بن الضياء قاضي مكة وشيخ الحرم الشريف مما أمن لها المشروعية، ورغم ذلك فقد انتقل الجدل حولها بين تحريم وتحليل من مكة ومصر إلى الشام، أقوال منعها لم تقم على الشراب نفسه فهي وإن كانت تعدل المزاج وتعين على السهر إلا إنها لا تستر العقل كالخمر، لكن اجتماع الناس على شربها في أماكن نقل جلسات الناس إلى خارج المسجد. المساجد عند المسلمين لم تكن لأداء الصلوات فقط بل كان الناس يجلسون فيها ويتحدثون وفيها يصنع الرأي العام، وهكذا فإن المقاهي فتحت مجالا دنيويا للحياة، أثار ريبة البعض ولذا فإن من حرمها ابتدأها بالتحريم عن تأثيرها في الصحة، وما قد تسببه من مضار، وبعد أن لم يتأكد ذلك أصبح التحريم بسبب اجتماع الناس عليها خارج المساجد، مما شغل بعضهم عن الصلوات، وعن العمل، كما خلطها البعض بالمباح مثل حب الهال والقرنفل، ولكن آخرين خلطوها بالأفيونات، ثم دخلها المغنون، فقد جاء إلى مقاهي دمشق ثلاثة مغنين من يهود حلب، وربما استغل البعض أجواء المقاهي لتسهيل الدعارة والفساد، وكان كل طرف يستعين بالسلطة السياسية لدعم موقفه، فصدر مرة قرار من سليمان القانوني الحاكم العثماني بمنعها، وتشدد مراد الرابع في منعها بل وقتل بعض من يتعاملون معها، وإن كان قراره مبنيا على رأي علماء الدين إلا أن الأقرب للحقيقة هو أن التقاء الناس فيها أوجد مكانا للمعارضة السياسية، التي تطورت في بعض الأحيان إلى أعمال عنف، كما حدث عندما قام فريق من الإنكشارية بمهاجمة مناوئيهم وقتلهم في أحد المقاهي في اسطنبول وتطور الأمر حتى قُتل الوزير الأعظم. وفي مصر حدث أن قامت فتنة، إذ تأثر العوام بفتوى التحريم فقاموا من تلقاء أنفسهم بالهجوم على بيوت القهوة، فكسروا أوانيها وضربوا أهلها وأدى ذلك إلى فتنة كبيرة. أيضا هناك من السياسيين من دافعوا عن القهوة والمقاهي، فهذا مصطفى لالا باشا الذي كان واليا على دمشق يحمي المقاهي، وكان رجلا له رصيد كبير في العمل للسلطنة العثمانية رغم ما قيل عن ظلمه، وأقام وقفا تضمن مكانا يتم استثماره كمقهى لصالح الوقف، بعدها تعددت الأوقاف التي تتضمن مقاه وحمامات عامة وكان هذا أول ظهور المقاهي في دمشق، وقد جرت مثل هذه التفاعلات في حواضر العالم الإسلامي بأشكال متقاربة، كما في القدس وحلب واسطنبول، وكذلك في البوسنة والبلقان التي دخلت تحت الحكم العثماني فاكتسبت أنماط الحياة في المدن العثمانية. والجدير ذكره أن أول مقاهي اسطنبول افتتحها تاجر دمشقي وثانيها تاجر حلبي. وقد عكس الشعر تلك السجالات فحمل مشاعر محبي القهوة وذم البعض لها. ومما يدل على حالة السيولة في تحريم القهوة وتحليلها، أن امرأة شابة كانت تبيع القهوة في المدينة مكشوفة الوجه اشتكت حالها الى الشيخ محمد بن عراق، فإن منع شرب القهوة حرمها من مورد رزقها، فأباح لها العودة إلى بيع القهوة مشترطا الستر. في دمشق كثرت المقاهي وازدهرت فيها الأنشطة المباحة، بدأت ألعاب الشطرنج والضامة، ثم دخلها الحكواتي، ودخل فيها مسرح أشبه بمسرح العرائس، سمى بخيال الظل، وقد أقيم كثير منها على جداول الأنهار وتحت اشجار الغابات، وأقيمت فيها النوافير الجميلة التي بهرت الرحالة الأجانب، كما وأقيمت مقاصف تبيع القهوة في جنائن التنزه، ولذا فقد استقطبت علية القوم والمثقفين، وعلماء الدين، واشتهر كل مقهى بمن اعتاد الجلوس فيه من الشعراء والأدباء، كتب بعض الأدباء رواياتهم على طاولات معروفة في مقاهيهم المفضلة، كما أصبحت بعض المقاهي مقرا لاجتماعات سياسية مهمة، وكانت المقاهي مقرا لبدايات العرض السينمائي والمسرحيات، ثم تعرف الناس من خلالها على الراديو والتليفزيون، وكما ساهمت المقاهي في توسيع المجال الدنيوي خارج المسجد، فإن التليفزيون والفيديو قد أعاد الناس الى بيوتهم وساهم في إغلاق بعض المقاهي، وتكرر إغلاق بعض المقاهي حدث بسبب اجتماع أصحاب الكارات الفاسدة فيها، وكاد استقرار النارجيلة في المقاهي إلى جانب القهوة يؤدى إلى عودة الكلام عن التحريم، إلا أن الشيخ عبد الغنى النابلسي وهو من كبار علماء الشام قد أفتى بتحليل القهوة والدخان، ونظرا لما استند عليه من قواعد شرعية وعقلية، وربما لأن الفتوى لم تكن على هوى السلطة العثمانية فقد لاقت قبولا واسعا بين العلماء و بين الناس. ولعل فتوى الشيخ بتحليل الدخان كان قبل ظهور الأبحاث العلمية عن أضرارها الكثيرة والمؤكدة. ولكن ظل تدخين النارجيلة في مدن الشرق سببا رئيسا لجذب الناس على اختلاف طبقاتهم ومستواهم الثقافي إلى المقاهي، وقد حدث في ستينيات القرن الماضي أن اشترى أحد رجال الأعمال مبنى يقع فيه مقهى الهافانا الشهير، فاعترض المثقفون، وأدى هذا الى أن تمتلك المقهى وزارة السياحة، وأن يبقى المقهى أحد الأماكن التي تجتذب المثقفين. انتشار المقاهي في المدن كان سببا رئيسا لانتقال الثقافات فعبر مقاهي البوسنة مثلا دخلت مؤثرات ثقافية عربية وتركية و فارسية إلى الأدب البوسني، كما يعرض ذلك محمد الأرناؤوط في كتابه (من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي)، ويشمل هذا الكتاب نصين مهمين، أحدهما يحلل القهوة كتبه مصطفى بن محمد الأقحصاري من فقهاء مدينة أقحصار التي تعرف اليوم بروساتس في البوسنة، والنص الثاني بتحريمها للشيخ حسن أوزيجة الهرسكلي من فقهاء مدينة أوزيجة (جيتشه) في البوسنة، وكلتا الرسالتين تعكس الحراك الثقافي والديني الذي دار حول القهوة في العالم الإسلامي. في كتابها تعرض هلا قصقص مجموعة نفيسة من الصور والخرائط التي توثق المقاهي وأسمائها ومواقعها وزمن إقامتها ومشاهير روادها، وطبيعة زبائنها، فرغم أن المقاهي ساهمت في تذويب الفوارق الاجتماعية إلا أن بعض المقاهي أصبحت شبه خاصة ببعض أصحاب المهن مثل مقهى النجارين، ومقهى الحمام الذي يرتاده باعة الطيور، ومقهى البخاري الذي يجمع الخبازين، ومقهى العمال الذي خرجت منه مظاهرات ضد الانتداب الفرنسي مع مطالبات بتحسين ظروف العمل، واختصت بعض المقاهي بناحية جغرافية، كمقهى الديرية لأبناء دير الزور، ومقهى القلمون لأبناء القلمون، وكان للصم والبكم مقهى خاص بهم يدعى مقهى العون بالله، وفيه أسسوا رابطة خاصة بهم سًميت “رابطة الخرسان”. كما كان الشحاذون يجتمعون في مقهىً سمي باسمهم. قدمت بعض المقاهي عروض الإنشاد الديني والرقص الصوفي، والمصارعة والمبارزة بالسيف والترس، ثم طاولة البلياردو. ومبكرا في تاريخ المقاهي تم توظيف حكواتية، والحكواتي يحفظ سيرا جذابة ويجيد سردها بإيقاع وأسلوب مشوق، وقد اشتهر كل حكواتي ببعض السير، واشتهرت سيرة عنترة بن شداد، والزير سالم، وتغريبة بنى هلال، وسيرة الأميرة ذات الهمة، وسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة الظاهر بيبرس، وكان مرتادو المقاهي يتعصبون لبعض الأبطال، وللسيرة تشويقها ولها بعد أخلاقي، ولا يزال مقهى النوفرة الذي بلغ عمره خمسمائة سنة يقدم الحكواتي. بعد الحكواتي أصبحت بعض المقاهي تقدم فنون خيال الظل، أغلبها يقدم بطلين، كراكوز وعيواظ، وهما شخصيتان مأخوذتان من الفلكلور الهندي والتركي، ولعل مثالهما اليوم شخصيات توم وجيري. ولما يتم اختياره من الحوار إسقاط على الواقع ونقد لفساد السياسة وما يشبه ذلك. وكان هذا تمهيدا لظهور رواد في المسرح العربي أشهرهم أبو خليل القباني في دمشق وله نظراء في مدن الشام الأخرى. وأصبحت المقاهي تعرض مشغولات فنية، منها الرسوم الشعبية التي ترسم شخصيات السير التي يرويها الحكواتية، وتطورت إلى أعمال الرسم على الزجاج والرسم على الجلد و النقش على المعادن، و التطريز على القماش، وقد أظهرت الصور المصاحبة جمال هذه الفنون. والمتاحف التي تضمها، وقد برزت أسماء بعض الفنانين، منهم أبو صبحي التيناوي الذي ورث حرفة الرسم عن أبيه، رسم عنتر وعبلة، والظاهر بيبرس وجحا وحماره وشخصيات مشابهة، وقد شاركت أعماله في معارض أوروبية، وهو أول فنان عربي يشارك مع بيكاسو في معرض نظمته مقتنية فرنسية، وله عمل معروض في متحف اللوفر، وتعرض لوحاته اليوم في متحف التقاليد الشعبية في دمشق. وتعلق الكاتبة: أن الرسم الفطري الشعبي تأسس على أساليب وتقنيات سبقت مجيء كبار الفنانين المحدثين في أوروبا بكثير. ورغم أن معظم الفنانين الشعبيين تعلموا من الحياة حولهم فقط لأنهم كانوا أميين لكنهم أبرزوا رموزا بالغة الدلالة، النخلة تدل على الخشب، وطير اليمام على السلام، والأسد رمز القوة، والسيف رمز البطولة والأفعى رمز الشر. هكذا نرى أن القهوة التي ملأت رؤوسا بالصحو فقد ملأت صفحات بالثقافة والشعر. وأصبحت بعض بيوتاتها متاحف للفن والذوق الحضاري.