أيام ضاحكة في صالون العقّاد.
يُعتبر كتاب «في صالون العقّاد كانت لنا أيام» من أشهر كُتب الأستاذ «أنيس منصور»، وهو الكتاب الذي يتحدّث عن الندوة الأسبوعية التي كان يحضُرها مع مجموعة كبيرة من الأدباء والشُّعراء والمثقّفين، في منزل الأستاذ «عبّاس محمود العقّاد». يستعرض الكتاب آراء «العقّاد» حول المذاهب الفكرية والمدارس الأدبية، وهذا الكتاب ليس عملاً أدبياً فلسفياً تاريخياً دينياً فحسب، بل إنه قصّة تصوير للحياة الثقافية العربية في منتصف القرن العشرين، من معارك أدبية، وطروحات فكرية، ونقاشات ثقافية. ولكن القاريء لهذا السِفر الضخم الذي تُناهز صفحاته 700 صفحة، ربما يستغرب نُدرة الفُكاهة والطرائف بين سطوره، إذ بالرغم من شُهرة «العقّاد» ككاتب سياسي مرموق، وناقد أدبي صارم، وأديب مُلتزم، إلا أنه امتاز بقدر كبير من الإقبال على الحياة، وروح الفُكاهة المرِحة، والدُعابة الذكيّة، التي كثيراً ما كان يُشارك فيها أو يرويها. وفي الحقيقة فإن «أنيس منصور» يروى في كتابه القليل من بعض الطُّرف، ومنها: «جاءت سيّدة إلى الصالون يوماً، وسألها الأستاذ عن والدها، فقالت: «تعيش إنت»، وسألها عن زوجها، فقالت: «تعيش إنت». ولا بُدّ أنه نظر إلى ملابسها فوجدها مُلوّنة، فقال: «لا بُدّ أن ذلك منذ وقت طويل»، فكان ردُّها: «والله من شهرين»! وبعد أن غادرتْ، قال «أنيس منصور» للعقّاد: «لعلّها تزوّجت يا أستاذ»، فضحك «العقّاد» وقال: «إن هناك عبارة شهيرة «لأوسكار وايلد» تقول: « أن سيّدة ازدادت شفَتاها احمراراً، حُزناً على وفاة زوجها»..! ويروي: «عندما قُلنا للأستاذ مرّة أن أحد الزُّملاء قد باع أرضه، ليُنفق منها على تعليم إخوَته، سألَنا: «وهل يتعلّم هو أيضاً»؟ قُلنا: «لا»، قال: «كيف يُضحّي من أجل أن يتعلّم إخوَته، ثم يُضحّي بتعليمه لنفسه؟ قولوا له أن الأستاذ يَصِفك بأنك حِمارٌ إلا قليلاً»! فلمّا دخل المدرسة، فرِحنا بذلك، وقُلنا للأستاذ: «لقد استمع إلى نصيحتك ودخل المدرسة»، فسألَنا بسُرعة: «وكم عُمره»؟ قُلنا: «في الخمسين»، قال: «قولوا له إن الأستاذ يقول لك: الآن قد اكتملتَ حِماراً»..! وربما تعود نُدرة الطرائف في الكتاب إلى حداثة انضمام الكاتب إلى ندوة «العقّاد»، مقارنة بغيره من الأعضاء، إذ يقول: «كنتُ أجلس إلى جِوار الباب، فأنا لستُ إلا طالباً صغيراً، كأنني أتوقّع أن أخرج، أو يُخرجني أحدٌ لأيّ سبب، أو أن الجلوس في الصالون حسب الأقدميّة، فالأقربون إلى الأستاذ هُم الأقدمون». فالأستاذ «محمد خليفة التونسي»، على سبيل المثال، الذي رافق «العقّاد» منذ ندوته الأولى، ولمُدّة 32 عاماً، يقول: «إن ندوته لم تبدأ في صالون منزله، بل في حديقة «الشاي»، الواقعة في «حديقة الحيوان»! ويروي «التونسي» أنه قد خطرَ لبعض الأعضاء، من باب الدُعابة، واتّفاق الجميع على أن يوازنوا بينهم وبين جيرانهم من مخلوقات الحديقة، وأن يختاروا لكلّ منهم شبيهاً من الحيوانات! ورأوا أن أعمقهم فِراسة وأشدّهم إصابة في التّشبيه من الأعضاء، رسّام بارع هو الأستاذ «أحمد صبري»، تعوَّد بحُكم عمله حُسن التفرّس في الوجوه، والتقاط السِمات من ظاهرها إلى ما وراءها من خفايا النفوس، فرضَوا به حكَماً، ولقّبوه «مُدير الحديقة»، ووكلوا إليه أن يختار لكلّ منهم رُكناً أو حظيرة! وكان المدير عند حُسن ظنّهم جميعاً في سداد الاختيار، والمُجاهرة بالعدل كما يراه. ومن آيات عدله أنه اختار لنفسه «قفص القرود»! ومن الطريف أن الأستاذ «محمد رفعت» لُقّب بين أعضاء الحديقة «بالجدي»، وهو لقب مُهذّب مقبول، ولكن أحدهم غضب منه مرّة، فعدَل عن لقب «الجدي» إلى كلمة تكاد تُرادفها، فلقّبه «بالتيس»، وهو لقب له معنى سيّء، فما كان من «رفعت» إلا أن قال له: «لماذا هذا التفحّش يا فُلان»؟ وسُرعان ما اعتذر إليه صاحبه، ومضت الأمور بينهما بسلام. وقد اُختير للأستاذ «العقّاد» «حظيرة الزراف» لطول قامته، ونظره من أعلى، إلى جانب طبيعته الوديعة، وكراهته للعُدوان. و»للعقّاد» قصيدة طريفة في وصف هذه الندوة وأعضائها من المخلوقات، عنوانها: «حديقة حيوان آدمية»، فهذه الحديقة لا تجمع إلا الفنّان والمثقّف والأديب، اجتمعوا كما كان «أورفيوس»، المعروف في الأساطير اليونانية، يجمع الكائنات الحيّة حين يُغنّي، فتُقيِل عليه من كلّ فصيلة، وهي لا تشعر بخوفٍ، ولا تهُمّ بعُدوان، ومنها: أورفيوس الفنّ سوّى بينها فتلاقى الدُبّ فيها والقرود وتغنّى فرَسُ النهر بها يا لهُ من فرَسٍ طلق النشيد ومشى الأرنب والحوت لها صاحبا القاعَين من لُجّ وبِيد وتآخى الجديُ والضبعُ، وما بين هذين سِوى الثأر اللّدود ولغا البطريقُ فيها لغوَةً وهو من قُطبٍ جنوبيّ بعيد وكأنّي بالزرافى اجتمعتْ وحمير الوحش منها في صعيد والسُّلَحفاة تجارى عندها أرنب البيداء والكلب الصَّيود فتحتْ أقفاصها واختلطتْ لا سُدودَ، لا قُيودَ، لا حُدود حيوانات نماها آدمٌ وهي من أبنائه نسلٌ فريد حيوانات ولكن بينها كلّ ذي لُبّ سماويّ رشيد أورفيوس الفنّ سوّى بينها فاستوى المُنشِدُ فيها والمُعيد وبعد انتقال الندوة إلى منزل «العقّاد»، حدث أن انضمّ إلى الندوة عضوٌ جديد، لا يُطيق السُكون إلى مقعد واحد، ولا يُطيق السُكوت مع من يُجاوره، دون أن يُبالي بحديث غيره.. وكان «العقّاد» بالطبع هو الأكثر حديثاً، لأن الزوّار إنما جاءوا ليسمعوا منه، لا من غيره. ورأى الأستاذ أن صاحبنا لا يسكُن ولا يسكُت، فهتف بمُدير الحديقة، في لهجةٍ تمتزج فيها الدّعابة بالسُخرية، لكي يبحث لهذا الزائر عن قفص! ثم استمرّ في حديثه. وما إن توقّف الأستاذ عن الحديث بعد دقائق، وقبل أن يشرع في غيره، إذ المُدير يقول: «دعوه طليقاً في الحديقة مع فيرانها، يجول بين أقفاصها كما يشاء»! فانفجر الحاضرون ضحِكاً، وجلجلت قهقهاتهم عاليةً، ومنهم الأستاذ «العقّاد»، رحمه الله تعالى.