الأدب الجيد والرواية الرديئة.
ما زال العديد يخلط بين بعض الأدب الرديء الأكثر انتشاراً من حيث عدد ونوع وشكل القُراّء، والأدب الأقل انتشاراً رغم كونه الأكثر صناعة للوعي والذائقة الأدبية، وذلك أثناء الحديث عن روايات الفانتازيا والخيال والتشويق البوليسي، التي عرف التاريخ الأدبي حضور لها في أزمنة كثيرة بما فيها عصرنا الحالي، والذي بات حاضرا حديث معارض الكتاب بعد تكرار حالات الهرج والمرج من قبل جمهور قرّاء أثناء حفلات توقيع الروايات، متسبباً بإثارة انتباه الكُتّاب والنقاد للروائيين المجهولين الذين باتوا الأكثر شهرة بين مجهولي الهوية الروائية ومنزوعي القيمة الأدبية، بالرغم من أن طيف واسع ممن تناولهم نقدا أو إطراء، ولا أعمم، لم يكلفوا نفسهم عناء الاطلاع على منتوجهم وقراءة رواياتهم، ليكون الحكم عليهم وفق النص ودلالاته، ومكامن قوته وضعفه؛ لا الإطار العام لنهجهم ونمطهم وأسلوبهم وجمهورهم. لا بد لنا بداية أن ندرك أن الأدب ليس بقالب واحد ينهجه الأدباء بمن فيهم الرواة والقاصين والحكواتية “storytellers”، فهناك أشكال منه تحذو حذو المتعارف عليه من حيث الالتزام بأسس الأدب الروائي وتياراته ومدارسه. وهناك في المقابل، نوع من الأدب بحكم انتمائه للرواية، وإن لم يلتزم بالإطار الروائي؛ يقود المراهقين وصغار السن لحالة من الإعجاب المبني على فضول مثار تجاه قصص الجن والعفاريت والجرائم البوليسية وفانتازيا الرعب، دون أن يكون له تأثير وعي ثقافي سوا إرضاء فضول فئة يغلب عليها صغار السن المتفتحين على قراءة التشويق والإثارة، أو حتى ما يُمكن أن نطلق عليه الهّبة «الترِند». دون أن نغفل بالطبع، الأدب الأهم الأكثر فائدة وتأثيرا رغم بعده عن منصات التتويج، وهو الذي يصنع الوعي والذائقة الأدبية الحقيقية والفعلية، مؤطراً وممكنا للقارئ الناقد لا القارئ الناقل أو العابر أو المرتبط فقط بغرائزه وصيحات جيله والمكان/الزمان الذي يعيش فيه. باعتقادي، ودون أن يكون في الرأي انتقاص مما سأطلق عليه «أدب صغار السن والمراهقين»، ولا الحط مما وصل له قلة من الرواة والقاصين من تأثير واضح وحضور لافت وانتشار كبير يحسده عليهم الرواة المعروفين المفتقدين لمكاسب على أرض الواقع؛ أرى أن المبالغة في تناول ظاهرة روايات فانتازيا المراهقين، جزء منها دعائي، وآخر استرعى انتباهه انحدار الذائقة، وثالث أخذته الحمية والانتماء والعاطفة ليكون حصان طروادة في الدفاع عنه وما وصل إليه، ورابع وهو الأكثر سخرية، استخدم النظريات الأدبية والعلمية للدفاع عن روايات أحدهم، ولتبرير نمطه وأسلوبه، بما في ذلك الهجوم على منتقديه من النقاد والأدباء، واتهامهم بالغيرة والحسد، متناسين أن ما يبقى وتخلده الذاكر هو الأدب الحقيقي، الحافر بصمته عبر الزمن بأعمال مضت عليها عقود وقرون وما زالت تُقرأ حتى يومنا هذا، بخلاف روايات الإثارة منزوعة القيمة، وإن كانت ترى مجداً في السنين الحاضرة، إلا أن حكم الوقت عليها آتٍ كما فعل مع من سبقها، ليهملها بعد أن كانت مجرّد نزعة فضول ودعاية عابرة! وعند الأخير أتوقف، مستعرضا استشهاد أكاديمي بنظرية «موت المؤلف» للناقد والأديب والعالم اللغوي الفرنسي رولان بارت، وإسقاطها مثلا على روايات أحدهم، لإثبات ما لا يمكن إثباته بأن نصه يحمل في داخله مكامن القوة التي تفسر سبب انتشاره وتأثيره الكبير، في إسقاط مدمر لطبيعة نظرية موت المؤلف لعراب التيار البنيوي وأحد رواده الأوائل، عبر استحداث مقاربة في غير محلها، لإعطاء مكانة أدبية لروايات جُل نجاحها لا يكمن في اللغة والعبارات والبناء البلاغي للنص، وإنما بأعداد التوزيع الكبيرة، وجذبها لصغار السن، دون الأخذ بالاعتبار، ومع كل الاحترام للراوي وجهده، بكونها لا تعد أدبيا روايات تمثل أدباً حقيقياً يرتقي بالذائقة الأدبية لقرائها، بل أقرب ما تكون ربما لنسخة رديئة من روايات أجاثا كريستي. بعض المتحمسين للظاهرة، وصلت بهم المبالغة لدرجة عقد مقارنة بين روائي أدب «الهبّة/الترِند»، بأسلوب أيقونة الواقعية السحرية، الروائي غابريل غارسيا مركزيا، عاقدين مقارنة بين ما يكتبوه، والروايات الخالدة لأسطورة أمريكا اللاتينية، بما فيها عمله الأيقوني «مائة عام من العزلة»! أما الهجوم الشعبوي الذي يشنه حماة حمى ظاهرة الأدب الرديء، فأكثر ما استرعى اهتمامهم، هو تصويب سهام نقدهم لطبقة المثقفين، لا من واقع نقد لإعادة البوصلة باتجاه تكريس وجود «المثقف العضوي» كما وصفه غرامشي، وإنما كما ظهرت في العديد من أقوالهم، للانتقاص لمجرد الانتقاص من الثقافة والفكر والأدب. وهو ما يؤشر في حد ذاته على اتساع الهوة عربياً بين المجتمع بعامته، والأقلية من النخب البعيدة عن إما إقامة جسور التواصل، أو الْمُراد لها أن تبقى مُغيبة! بعيدا عن المقارنات المليئة بالمغالطات المنطقية، والحماس الغير منضبط المدافع عن روايات الفانتازيا الرديئة، والناقدة له دون تبيان مكامن العور فيه، أرى أن بالإمكان الاستفادة من موهبة البعض القصصية، للارتقاء بذائقة صغار السن من القراء، وانتهاز تأثيرهم لإحداث بصمة أدبية بدلا من الاستمرار في الاعتماد على التشويق القائم على إثارة الفضول، مع انتهاج حبكة يتم استخدامها في عالمهم الصغير دونما بلورة لقيم ومعايير تجعل منهم قراء شغوفين بالقراءة للمعرفة، بدلا من إشباع فضولهم الوقتي، وملئه بقصص الجن والشياطين والعفاريت.