اللغة بوصفها خطوة نفيسة.
من أعالي الصمت والانزواءات الشعورية التي تتبعه، ونزولًا إلى حواف التعابير والانفعالات، ألمح احتفاءً باللغة، فتتعاظم في روحي نشوة الكلام. — يقول البرغوثي: “هنالك يدٌ لولا انتباهها نموت” — ولا أحسب أدقَّ إسقاط لذلك في غير اللغة. يدُ اللغة وهي تتسلل في سديم اللحظات التي أعجز فيها عن تركيب جملة تواكب الحدث؛ إما لألم يُغلق التعابير، أو لسكينة تُسكّن إقدام اللغة. ولكن، في لحظة مغايرة، وبلا تخطيط، تدق أجراس اللغة من حولي، يهتف بريقها، ويتصاعد زهو المتكلمين بها، وإذ بي أركض تولّهًا لها مثل صديق قديم. أول خطوة حقيقية في عوالمي كانت تُهندمها اللغة، بل كل خطوة، وأول أثر نفيس يُعبّر عن هويتي، كانت تُشجّره اللغة، وآخر توقيع لي قبل الارتحال قسرًا كان اللغة، واليوم، أعرب عن امتناني للمكان الذي احتوى فيَّ اللغة، بذات اللغة! مجدُ الشاعر، وأثيرُ الكاتبة، وأنيسُ المُحب، وسكينةُ المكلوم، وهَوسُ الأديب، ورثاءُ الحبيب، وأصالةُ المُتكلم، وهويةُ العربي، اللغة، ويا للغة، تعبُر بنا إلى عُلوٍ شاهق يُبدد هبوطنا الشقي نحو الصمت بلا هوادة، في شوقٍ دائم لهِبة الكلام. اليوم أرتحل عن الصمت، صعودًا إلى عُرس اللغة، على جناح اليمامة التي تعاظم فيها وحي لغتي وتقدّس، وجهًا لوجه أمام آخر لغة خبأتها في جوهر اليمامة قبل أن أرتحل. عائدة لأعثر على لغتي، حنينًا لها ولليمامة، ولي في غمار ذلك كله. والآن، على جناح اليمامة أتذكر ما لم يسقط من ذاكرتي قط، من هذا العلوّ الذي منحني شرف الكتابة، واعتزازي بمواطن المكتوب، أعادتني تهويدة اللغة حيث ارتحلتُ عنها مُكرهة، لأقول: لا يفنى الكاتب حين يجف وحي قلمه، بل يتلاشى حين تغرُب في ثنايا تعابيره نعمة الكلام. لم يمجدنا شيئًا غير اللغة، وما تُركنا إلا حين أفلتنا اللغة، كانت سِلمًا وسلامًا لكل ما هو أشد إيلامًا، كانت نبعًا حين تجف ينابيعي، وحين تغيّبتْ في صوتي/ انكسرت، واليوم أتلمّس اللغة كالهِبة، كمثوبة ارتقيتُ بها من جديد بعد عُسر الصمت، وكأني لم أرتحل عنها قط، تشعّبت في كياني وارتقت الرغبة، ولا شيء يعادل هذه الرغبة حين تستفيق بعد عذابات الاجتهاد ووحشة الحنين لها، ففي جلالها لمستُ المعنى الذي تهذبه هي ببلاغتها، وتمسح شقوته بكثافتها. ومن هنا، بعد انفراجة الكلمة: عودًا مُسالمًا لها، أتبع وهجها وأستكينُ بمعيتها، على أمل ألا أفقد جوهرها أبدًا.