إرث الأسد..

جمهورية المخدرات.

تعدّ تجارة الكبتاجون واحدة من أخطر الصناعات غير القانونية التي اجتاحت الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، حيث شكّلَ هذا المخدر المسبب للإدمان جزءًا أساسيًا من اقتصاد النظام السوري المنهار، وتحت إشراف مباشر من عائلة الرئيس الهارب بشار الأسد وحلفائه مثل حزب الله اللبناني؛ شهدت هذه التجارة ازدهارًا كبيرًا، لا سيما في ظل الحرب الأهلية والعقوبات الدولية، لكن صناعة المخدرات التي كانت بمثابة شريان حياة لنظام الأسد، سرعان ما امتد تأثيرها ليتجاوز الحدود السورية ويصل إلى دول الخليج، في محاولة لإغراق شعوبها في دوامة الإدمان والجريمة. جهود مستمرة واجهت المملكة العربية السعودية تحديًا كبيرًا في مكافحة وباء المخدرات، ولا سيما تهريب الكبتاجون الذي يشكل تهديدًا خطيرًا، إذ كانت تستغل شبكات التهريب الموالية لنظام بشار الأسد، بالتعاون مع حزب الله وإيران، تهريب الكبتاجون إلى داخل الأراضي السعودية، لكن المملكة من جانبها أظهرت إصرارًا واضحًا في مواجهة هذا التحدي من خلال رفع كفاءة الأجهزة الأمنية لمواجهة التهريب، وقد تمكنت من إحباط العديد من محاولات تهريب الكبتاجون عبر المنافذ الحدودية، بما في ذلك مصادرة ملايين الأقراص المخدرة في شحنات متنوعة مثل: الفواكه كالرمان والشمّام، والحبوب، والخضروات، ومبيضات القهوة، وإطارات الشاحنات، وحتى خزانات الهواء، وقد تم تطبيق حظر على استيراد منتجات لبنانية وسورية، بعد أن قام المهربون بإخفاء ملايين الأقراص داخل تلك المنتجات. إلى جانب الإجراءات الأمنية المشددة، عملت المملكة على توظيف التكنولوجيا المتقدمة لتحديد الأنماط والطرق التي يستخدمها المهربون عبر الحدود، كما عززت التنسيق بين أجهزتها الأمنية، ورفعت الميزانيات المخصصة لمكافحة المخدرات، وبدأت في استهداف شبكات غسيل الأموال المرتبطة بهذه التجارة، وسبق وأن أعلن وزير الداخلية، سمو الأمير عبد العزيز بن سعود في مايو 2023م عن التزام المملكة باستهداف المهربين والتجار وكل من يسعى للإضرار بالمجتمع السعودي. أوضحت إدارة مكافحة المخدرات في السعودية، أن المخدرات المهربة للمملكة تُصنع خصيصاً في مصانع سرية، معلوم للمكافحة مواقعها، وتمثل كمياتها المضبوطة داخل الوطن الثلثين من معدل المخدرات في دول العالم، لافتاً إلى أن هدف المصنعين ليس مادياً فحسب بل تدميري لشباب الوطن في المقام الأول، مبيناً أن الذي يسعى للكسب من هذه الآفة هم المروجون من داخل البلاد. وأوضحت الإدارة العامة لمكافحة المخدرات إن التحريات في إدارة مكافحة المخدرات أثبتت أن المخدرات تصنع خصيصاً للسعودية، ولا تتعدى المادة المخدرة فيها الـ 10 في المائة يضاف إليها مواد مدمرة عقلياً. ولم تقتصر جهود المملكة على المسارات الأمنية فحسب، بل امتدت إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية، فإدراكًا لضرورة معالجة الأسباب الجذرية لتعاطي المخدرات، أطلقت الحكومة برامج إعادة تأهيل تستهدف متعاطي المخدرات، خاصة الشباب، لتوفير فرص التعافي وتقليل نسب الانتكاس، كما تم التركيز على إشراك الشباب في أنشطة ثقافية واجتماعية تعزز شعورهم بالانتماء وتمنحهم آليات مواجهة صحية. علاوة على ذلك، شجعت المملكة حملات توعوية عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لتحذير المواطنين من مخاطر المخدرات وذكرهم بالعقوبات الصارمة، ولا تزال المملكة تواصل العمل على المستوى السياسي والإقليمي لمنع إنتاج وتوزيع الكبتاجون والحد من آثاره المدمرة على المجتمع السعودي والمنطقة بأكملها. ما هو الكبتاجون؟ الكبتاجون هو مخدر يشبه في تركيبته الأمفيتامين ويعمل على تحفيز الجهاز العصبي المركزي. يتكون المخدر من مادة «أمفيتامين» معززة، مما يجعل تأثيره أسرع وأقوى بكثير من الأمفيتامين العادي، إلى جانب مادة «ثيوفيلين» المشابهة للكافيين، التي تمنح المتعاطي شعورًا بالنشاط والطاقة، تم إنتاج الكبتاجون لأول مرة في ألمانيا في الستينيات لعلاج اضطرابات فرط الحركة والنوم المفرط، لكن تم حظره في عام 1986م بعد اكتشاف آثاره الإدمانية الخطيرة، حيث وجدت الدراسات أن الإدمان على هذا المخدر يؤدي إلى الهلوسة، الاكتئاب، الأرق، وأمراض القلب، كما أن انتشاره في المجتمع يهدد مستقبل الشباب الذين يُعتبرون عماد التنمية في هذه الدول، ومنذ بداية الحرب الاهلية السورية أصبح الكبتاجون أحد أبرز الملامح السلبية في الشرق الأوسط، لا سيما بعد أن أصبح سلاحًا اقتصاديًا في يد نظام بشار الأسد، حيث بدأ إنتاجه في سوريا ينتشر بشكل ملحوظ ليغزو الأسواق العربية والعالمية. تورط عائلة الأسد منذ وصول عائلة الأسد إلى سدة الحكم؛ كانت معرفة الدولة السورية بالمخدرات محصورة في شحنات مهربة من أفغانستان وإيران ضمن شبكات معقدة أو داخل بعض معامل الأدوية التي تم تحويلها إلى ورش لتصنيع المخدرات والتي كانت تشرف عليها شخصيات مقربة من نظام الأسد وتحت غطاء بعض فروع المخابرات الأمنية، وظل الإنتاج والتهريب محدودًا وموجهًا للاستهلاك المحلي فقط، ومع اندلاع الثورة ضد النظام في عام 2011م، شارك العديد من تجار المخدرات والمهربين في قمع المتظاهرين، ثم أسسوا لاحقاً ميليشيا مسلحة شاركت في العمليات العسكرية لصالح نظام الأسد، وفي عام 2013م سرعان ما بدأت أنشطة تجارة المخدرات ـ وخاصةً مخدر الكبتاجون ـ في التزايد، حيث أصبحت أحد مصادر تمويل النظام والميليشيات العسكرية، بالتزامن مع تراجع اقتصادها الرسمي بسبب الحرب والعقوبات الاقتصادية والفساد داخل نظام الأسد. لعبت عائلة الأسد دورًا محوريًا في صناعة الكبتاجون وتهريبه وتوزيعه عبر شبكة من شركات وهمية وأفراد مقربين من النخبة العسكرية، لدرجة أن سوريا أصبحت في عهد بشار الأسد أكبر مورد للكبتاجون في العالم، وفقًا لتقرير المخدرات العالمي الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة العام الماضي، ووفقًا للتقارير أيضا فإن بشار الأسد وشقيقه ماهر، القائد السابق للفرقة الرابعة في الجيش السوري، كانا من أبرز الشخصيات المرتبطة بتجارة الكبتاجون، وقد استفادت النخبة الحاكمة من كافة موارد سوريا في إطار هذه التجارة المحرمة، حيث استخدمت المستودعات والموانئ المرتبطة بالممرات الملاحية في البحر الأبيض المتوسط، كما تم إنشاء مراكز تصنيع جديدة للكبتاجون في مصانع صغيرة أو عنابر حديدية مدمجة أو منشآت مهجورة حيث يتم تصنيع الحبوب باستخدام آلات بسيطة وتحت حماية أمنية من جنود النظام، كما تم وضع لافتات أمام منشآت أخرى تفيد بأنها مواقع عسكرية مغلقة، وهي في الحقيقة تستخدم في تصنيع نوعين من حبوب الكبتاجون؛ النوع الأول هو النوع الرديء الجودة وهو مخصص للاستخدام المحلي ويبلغ سعر الحبة الواحدة دولارًا واحدًا، والنوع الآخر عالي الجودة مخصص للأسواق الخارجية حيث تباع الحبة بـ 14 دولارًا. حلفاء الشيطان اعتمد نظام الأسد على شبكة متطورة من الحلفاء لإنتاج وتوزيع الكبتاجون، شملت هذه الشبكة وحدات عسكرية وأمنية رئيسية، مثل الفرقة الرابعة المدرعة بالجيش السوري، والمخابرات الجوية، والحرس الجمهوري، إلى جانب ميليشيات محلية مثل: كتائب البعث، وسرايا العرين، فضلاً عن جماعات مسلحة أجنبية ذات انتماءات مختلفة، مثل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، فمنذ بداية الأزمة السورية، ظهرت ميليشيا حزب الله اللبناني كلاعب رئيسي في دعم النظام السوري، حيث قام بدور محوري في تهريب الأسلحة والمخدرات، وحيث أن الحزب كان يتمتع بنفوذ كبير في العديد من مناطق سوريا، فإنه كان يشارك في عمليات تهريب الكبتاجون إلى مختلف دول المنطقة، وقد اتُهِمَ الحزب مرارًا وتكرارًا بتورطه في هذه التجارة، وإن كان قد نفى ذلك باستمرار. ورغم الإنكار، تشير الأدلة إلى أن الحزب، من خلال شبكة من الوسطاء والمقربين، قد أسهم في تأمين خطوط التوزيع للمخدرات إلى دول مثل السعودية ودول الخليج الأخرى، مستفيدًا من علاقاته القوية مع النظام السوري. من ناحية أخرى، تمت مكافأة العديد من المتورطين في شبكات الاتجار بالمخدرات، وأصبح عدد منهم أعضاء في مجلس النواب السوري بدعم من النظام، مما منحهم حصانة سهّلت أعمالهم غير القانونية، كما أن مراسيم العفو التي كان يصدرها بشار الأسد كانت تشمل العديد من المتورطين في جرائم الاتجار بالمخدرات، وفي سياق متصل تحولت المخدرات إلى وسيلة غير مباشرة لتجنيد الشباب إبان عهد بشار الأسد، وخاصة للميليشيات التابعة لإيران، حيث استغلت إدمان الشباب وعدم قدرتهم على تأمين الأموال للمخدرات، وتغريهم بالرواتب ودفعهم للانضمام إلى هذه الميليشيات، وقد يكون الانضمام إلى هذه الميليشيات البديل الذي يضمن موردًا ماليًا للشباب من خلال الإتاوات التي يتلقونها على الحواجز أو مقابل عمليات السرقة والبلطجة. كما يضمن لهم الحماية ويجعلهم يفلتون من التجنيد الإجباري. اقتصاد الكبتاجون هامش الربح من تجارة الكبتاجون مرتفع للغاية، لا سيما في ظل قلة تكلفة إنتاجه، وهو ما يفسر جاذبيته للنظام السوري المنهار وحلفائه، ومع ذلك فإن الأهداف السياسية وراء الاتجار بالكبتاجون كانت مهمة بنفس قدر الأهداف الاقتصادية بالنسبة لنظام الأسد، الذي كان يرى في المخدر وسيلة لابتزاز الجيران والدول العربية في المنطقة، ودفعهم لبناء علاقات جديدة معه لمنع التهريب إليها، ولا شك أن إعادة هذه العلاقات كانت ضرورة لشرعية ذلك النظام، فضلا عن تأمين مساعدات ودعم مالي له للحد من التهريب، وقد كشفت تقارير الصحافة الاستقصائية خلال السنوات الأخيرة عن التقاء الإرهاب الاقتصادي مع الجريمة المنظمة في هذه الشبكة التي تديرها عائلة الأسد والتي تسعى لتحقيق أرباح ضخمة على حساب حياة الشباب في المنطقة، خاصة في دول الخليج العربي، فبعد أن أدى النزاع السوري المستمر إلى انهيار الاقتصاد، اندفع النظام إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة، في هذا السياق تحول الكبتاجون إلى مصدر رئيسي للإيرادات. بعد أن تمكن نظام الأسد من استعادة معظم المناطق الخارجة عن سيطرته في العام 2018م، انتقلت تجارة المخدرات إلى مستوى جديد، حيث تضاعف حجم المخدرات المصادرة القادمة من سوريا خلال الفترة 2018-2020 بمقدار 6-21 ضعفاً مقارنة بمستوياتها في عام 2011، كما تضاعف عدد مراكز وورش تصنيع المخدرات التي تعمل محليًا، كما تضاعفت عمليات التهريب واستيراد المخدرات من لبنان أو إيران حيث تم مصادرة العديد من الشحنات، رغم تطور أساليب إخفاء شحنات المخدرات من الناحية التقنية، وتشير التقارير إلى أن قيمة صادرات سوريا من الكبتاجون تجاوزت 3.46 مليار دولار في عام 2020، ويقدر حجم اقتصاد المخدرات السوري ككل وخاصة قيمة تجارة حبوب الكبتاجون بنحو 16 مليار دولار سنويًا، وهذا يعادل ثلاثة أضعاف ميزانية الحكومة السورية لعام 2022. عمليات ضبط الكبتاجون تضاعفت منذ عام 2020، لتصل إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 86 طنًا في عام 2021، ووفقًا لدراسة أجريت في عام 2023 من قبل مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية، وهي منظمة غير ربحية تجري أبحاثًا حول الجريمة المنظمة والفساد في سوريا، فإن معظم أرباح تجارة الكبتاجون كانت تذهب بشكل مباشر لنظام الأسد، ويُعتقد أن معظم الكميات المهربة من المخدرات تخرج من ميناء اللاذقية، حيث تُرسل إلى الأردن ولبنان، ومنها إلى دول الخليج، في المملكة على سبيل المثال، يُضبط سنويًا ملايين الحبوب المهربة، حيث تتراوح قيمتها السوقية بين مليارين إلى 3 مليارات دولار. نظام مراوغ شهدت العلاقات بين المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي من جهة، ونظام بشار الأسد من جهة أخرى، تطورًا لافتًا في مايو 2023، حيث بدا أن التقارب أملته الحاجة إلى معالجة أزمة تهريب الكبتاجون، وعلى الرغم من تعهد النظام السوري بالتعاون في تحديد مصادر إنتاج المخدرات والاتجار بها، فإن الواقع عكس صورة مغايرة، حيث بقى التزام النظام السوري موضع شك، فالأرباح الهائلة التي كان يجنيها الأسد من تجارة الكبتاجون جعلت من الصعب تصديق استعداده للتخلي عن هذه الصناعة، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كان يعيشها نظامه بسبب العقوبات الدولية، وإلى جانب تردده فقد كان النظام السوري يواجه تحديات بنيوية تحول دون السيطرة الفعلية على تجارة الكبتاجون، فقد تفككت أجهزة الأمن إلى وحدات مجزأة وفاسدة تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة دون اكتراث بتوجيهات الحكومة المركزية، هذه الشبكات شبه المستقلة جعلت من الصعب على الأسد السيطرة عليها أو تفكيكها، علاوة على ذلك شكّلَ التدخل الأجنبي في سوريا عاملاً إضافيًا عقّد المشهد، حيث أسهم في ترسيخ الانقسامات الداخلية التي جعلت من الحد من إنتاج المخدرات والاتجار بها هدفًا بعيد المنال، وفي ظل تعقيدات الوضع السياسي والاقتصادي السوري وجدت دول الخليج نفسها أمام خيار محدود بين التعامل مع نظام الأسد المراوغ وبين اللجوء إلى وسائل إقليمية ودولية أكثر شمولية لمعالجة أزمة الكبتاجون، ليس فقط على المستوى السوري، بل على مستوى المنطقة ككل.