تشكل تجربة الفنان خضر جرجيس منطقة بارزة ومهمة في مسرح التشكيل العراقي، فنان ينتمي مبدئياً ونفسياً وروحياً إلى المدرسة الواقعية الإنطباعية وروادها بشكل عام، حد النخاع، والمغرم بالطبيعة العراقية المبكرة، بشكل خاص، بل سليل وحفيد روادها العراقيين، فهو لا ينكر أبدا تأثره باستاذه الكبير الفنان (فائق حسن)، من حيث ضربات الفرشاة الصحيحة، وإستغلال المساحات الشاسعة، فضلاً عن لغة اللون المتميزة عنده. ولكنه أراد في لحظة ما أن يرفض سطوة الطبيعة الكلاسيكية ويحولها إلى حالة أخرى تتمتع باحساس أو بشكل حسي لا بصورة بصرية، وأن يكون متميزاً بينهم في أسلوبه الفني وألوانه الخاصة، وضربات فرشاته الشفافة، وجرأة وحرية سحبات “سكينته” كثيفة ألألوان الخاصة المهيمنة، وكأنها أداة مشرط بيد طبيب في أثناء إجراء عملية صعبة.. خرج من معطف المدرسة الواقعية إلى المدرسة الحديثة بتكتيك أو بتقنيات تسر الناظر كثيراً. كون الإنطباعية في كثير من الأحيان تتساوى نتاجاتها عند أغلب الفنانين، من حيث الزوايا والظل والضوء والبعد الثالث.. وحتى الأسلوب.. هو لا يريد ذلك أصلاً، ولا يريد أن يرسم بعين الكاميرا الفوتوغرافية الكلاسيكية التي توقف الحياة في لحظات الإلتقاط.. ولكنه أخذ على عاتقه أن يرسل رسالة فنية متجددة في عالم الفن.. في دواخله مخاض طويل وعميق وقلق جداً، كان عليه أن يولده بوقت مبكر ونهائي.. فكان أن أتخذ “جرجيس” الأسلوب التجريدي المختزل جداً حد ذوبان وتجانس الألوان مع بعضها البعض، وتلاشئ أي ملمح لخطوط “الآوت لاين” بينها، وبعيداً عن أي مفردة تشخيصية كانت. فهو بحق فنان يكتشف الضوء واللون بحرفية كبيرة. لا يريد أن يقدم لنا دراسات “كلاسيكية” لماهية الطبيعة، بقدر ما يعنيه بناء أسس وقواعد معمارية جديدة لمفاهيم بصرية للطبيعة بواسطة الكثافة اللونية، الذي يعد العنصر الأول والأساس في تجربته، وإعادة صياغتها بمفاهيم أكثر “عصرنة” لعين المتلقي.. حيث تعدد الطبقات اللونية وكثافتها الواحدة فوق الأخرى أعطت إيحاءً جمالياً وبصرياً مؤثراً في الإحساس بالملمس والإيقاع والهرمونيات والتضادات اللونية وتناغم الإشعاع الضوئي، الذي يكمل بعضها البعض، وكأنها سلم موسيقي، تارة يصعد وتارة ينزل، حسب لحن رمزيات الألوان المتخالطة بعمليات مدروسة. هذه العقيدة الراسخة التي أتخذها وأسسها وأقتنع برسالتها، كانت خير تجربة له في مسيرته الفنية الطويلة، بعد مخاض في بحث عميق ودقيق ودراسات، حتى أستقر عليها وأنطلق منها وفيها.. عالم خضر جرجيس اللوني بمثابة الصوفي المتعبد في خلوته.. الذي يتجنب كل شيء إلا الجانب الجمالي للغة اللون وتضاداته المتجانسة. تجريدات خضر جرجيس المختزلة جداً، هي تطور كبير وملموس لمشاهد إنطباعية عظيمة من عمق رحم الطبيعة نفسها، تجريدات تحمل في طياتها رائحة مكان لفح الصحراء وأريج البساتين الخضراء، وعبق الأهوار، وشموخ الجبال العالية، وسكون الأودية الصامتة، التي تتحول الوانها إلى مساحات وكتل لونية صارخة. وتأتي اهمية جرجيس كونه فناناً جال وصال في فضاءات وجغرافية محليته لترقى إلى بالتالي نحو لغة العالم، حيث تفردت أعماله بالضربات اللونية المختزلة من خلال الفرشاة والسكين على سطح لوحاته المؤطرة باسلوبه الفني قبل أن تتأطر بالفريمات الخشبية. فالفنان خضر جرجيس لا يقترب من منطقة الموضوع إلا “باللون ولا غير اللون”، حيث يقسم اللوحة وفق رؤيته الفنية، إلى نصفين، تارة يعطي للفضاء العلوي مساحة أكبر وأوسع من الأرض، من حيث الفضاء السماوي يعد من ضمن الملمح الإنطباعي، وخصوصاً عندما تتسم بالغيوم الملبدة الكثيفة وهي تتحرك هنا وهناك في جو السماء، وأوقات الشروق والغروب المتغيرة التي تبدل الظل والضوء عن بكرة أبيه. وتارة أخرى بالعكس يعطي الهيمنة المطلقة للأرض وما فيها من تضاريس متموجة وشاسعة.. وصحراء وأفق عميق.. فأينما يكون الجمال والكمال في الموضوع يذهب إليه بالوانه الساحرة.. وبالتالي تبقى كتله اللونية هي الفيصل الحاسم والحازم في إستقرار وإتزان التكوين الفني في مجمل مساحة اللوحة التي تخلو من أي فراغ.. إذ يضفي على هذه المساحات لمسات لونية شفافة بمثابة طبقات خفيفة، ذات درجات هارمونية متأنية بدراسة نغمية، بواسطة “الفراشاة” ولكنه في لحظة ما يلبث ان يستعمل سحبات “سكينته” الثقيلة لتضفي على مجمل المشهد حيوية وتعطيه هوية جديدة.. لتجانس فيما بينهما في توافق تام. جرجيس يعطي أو يقدم روابط متينة في أعماله برؤية فنية لونية شاخصة ما بين مكنونات ومكونات السماء والأرض، من ضمن نهج أسلوبي متميز، فضلاً عن ثيمة موضوعه الأثير الذي لازمه طوال مسيرته الفنية، ألا وهو (الأرض – الطبيعة).. الذي يستحيل علينا فصلهما بخطوط أو ملامح معينة.. فهما في تجانس دائم وولادة لوحات متواصلة. ولد الفنان (الستيني) خضر جرجيس في الموصل العام 1938، تخرج في معهد الفنون الجميلة/ ببغداد العام 1956، وتخرج في أكاديمية الفنون الجميلة / بغداد العام 1965، أقام معرضه الشخصي الأول على قاعة المعهد الثقافي الفرنسي ببغداد العام 1971، ومعرضه الثاني على قاعة الرواق 1981، والثالث على قاعة الرواق 1985، والرابع على قاعة أبعاد 1996، أشترك في جميع معارض دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة والإعلام، وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، داخل العراق وخارجه، دَرّس مادة الفن في المملكة العربية السعودية، ومدرساً في معهد الفنون الجميلة ببغداد، فاز بجائزة الشراع الذهبي في الكويت 1989، له جدارية في مطار بغداد الدولي، عضو نقابة الفنانين العراقيين، وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين. أقام معرضاً شخصياً في إحدى دول الخليج العربي، بعد العام 2000، وكان في أشد الحاجة المادية، لوضعه الصحي الصعب، وقد أقتنت أحد الشخصيات الخليجية جميع أعمال معرضه، ليغادر بعدها العراق، صوب منفاه المتجمد في السويد، حيث قطعت جذوره من أرضه، مرغماً، بساق واحدة، بعدما بترت الأخرى بسبب مرض السكري، وسآءت صحته كثيراً، وكذلك حالته الاقتصادية، ليرحل إلى أجله المحتوم في يوم التاسع والعشرين من شهر آب لعام 2006. في الدنمارك، في كل صمت وهدوء، مثلما كان طوال حياته.. صامتاً صامداً.