ضمن عروض مهرجان البحر السينمائي 2024، شارك الفيلم العراقي (أناشيد آدم) في فئة الأفلام الطويلة، وفاز بجائزة اليُسر لأفضل سيناريو. الفيلم من بطولة الطفل العراقي عَزَّام أَحمد علي بمشاركة عبد الجبَّار حسن، الَاء نجم، تحسين دَاحس، ستار عواد، هدى شاهين، أسامة عزّام، ومن كتابة وإخراج عدي رشيد. تحضر العراق بتاريخها وطبيعتها بقوة في هذا الفيلم، السهول والحقول والانهار والصحراء والحقب الزمنية المتتالية بأحداثها المختلفة التي شكلت ذاكرة العراقيين، منذ العام 1946م إلى 2014 م. في المشهد الأول نسير مع “آدم” وسط الحقول البهيجة المحاطة بأشجار النخيل، وفجأة ننتقل إلى الجدب حيث تمشي مجموعة من النساء المتشحات بالسواد وهن ينتحبن في طريقهن إلى تشييع جثمان جدّه. في موقف يطغى عليه التوتر والرهبة، يشاهد “آدم” عملية غسل الجثمان من قبل والده ورجال القرية وهم يرددون الأدعية، بينما يرفض شقيقه الأصغر “علي” رؤية جدَه بلا ملابس، أو هكذا برَر خوفه. منذ هذه اللحظة يسير الخط الزمني للفيلم، تكبر الشخصيات، تتغير وتشيخ ماعدا “آدم”، مما يوقد الدهشة والتساؤل في ذهن المشاهد، كيف عبر الزمن من خلال الجميع وترك بصمته على شخصياتهم ووجوههم ولم يلاحظ وجوده؟ كبر الجميع وبقي “آدم” عالقا في طفولته، محملا بالذهول من تبدل الآخرين والسؤال عن معنى أن تكون في الزمن لكنك لا تستطيع أن تتقدم فيه. بعد عرض الفيلم خلال أيام مهرجان البحر السينمائي، قال كاتب ومخرج الفيلم عدي رشيد أنه أثناء الكتابة لم يكن يريد أن يطرح قضية الزمن من منظور فلسفي أو علمي، كل ما فكر به هو حالة مرور الزمن، أو مرورنا نحن في الحقيقة! الفيلم يطرح الفكرة ويتيح لك كمشاهد حرية التفكير. بعد مشاهدتي للفيلم تساءلت هل ثبات الزمن شيء إيجابي؟ هل البقاء في مرحلة الطفولة يجعلنا أكثر سعادة؟ وهل ننجو إذا بقينا محتفظين ببراءتنا إلى الأبد؟ الأداء التمثيلي كما ذكرنا الشخصية الرئيسية في الفيلم هي الطفل عزام أحمد، الذي أبدع في تمثيل دور “آدم” الذي عاش طفولة خالدة محتفظا بروحه النقية بينما تبدل كل شيء حوله. أستطاع أن يجسد البراءة الممزوجة بالحزن والضياع، وجعلنا نشعر بألم التخلف عن ركب الحياة بينما يمضي كل شيء إلى الأمام. هناك معاناة داخلية وصراع نفسي لم يعبّر عنه بالكلمات، لكنه نجح في نقله إلى المشاهد بعينيه وصوته والأسئلة المرتسمة على ملامحه عن عالم الكبار الذين يفرغون عقدهم النفسية فيه وكأنهم يحسدونه على احتفاظه ببراءته بينما عبث الزمن بأرواحهم. تعددت الشخصيات التي أدت دور شقيقه “علي” وابنة عمهم “إيمان” وخادمهم “انكي”، حيث تناوب عدة ممثلين على تجسيد مراحلهم العمرية، منذ الطفولة إلى المراهقة ثم الشباب وأخيرا المشيب، بعكس شخصية “آدم” التي بقيت ثابتة لطبيعة الدور. في الفيلم مشهد مؤثر لوالدة “آدم” وهي تحاول منع والده من أخذه بعيدا عنها، صراخها وتوسلها الذي يقابله صرامة وهدوء الأب، ووسط هذا الموقف المفزع يتساءل “آدم” إلى أين يأخذه والده؟ ما هو المصير ولماذا يقتلعه من محيطه الآمن؟ وهناك مشهد يولد غصة عندما عجز “آدم” عن مواجهة الحياة في الخارج بعدما منحه شقيقه الحرية، فعاد طوعا لحبسه، وخلع الثوب والحذاء الجديدين وعاد إلى غرفته الطينية الضيقة وأغلق الباب. الموسيقى والتصوير وظف مخرج الفيلم أغنية شعبية عراقية، ترددت في منتصف وختام العمل، لينقل لنا مشاعر الحزن والألم لفقد عزيز. والخوف عليه من الوحشة وكل ما يؤذيه أو يقلل من قدره، حتى وإن كان ميت. تقول الكلمات بنبرة محملة بالأسى: “يا مكفّن السلمان، كفنه بجلد بزّ من المقبرة يفزّ، خايف على السلمان من المقبرة يفزّ. يا مكفّن السلمان، كفنه بهباري* من الضواري، خايف على سلمان من الضواري”. كما تنقلت الكاميرا في رحلتها لتوثق صورا من جغرافية أرض الرافدين التي شكلت ثقافة أهلها، الأراضي الزراعية والحصاد، الاحتطاب، الاغتسال في النهر، الصحراء وطباع ساكنيها. كما تمت الإشارة أكثر من مرة إلى المدينة، التي حلم “آدم” بالذهاب إليها للدراسة، ومنها انطلقت الثورة. النص من الحوارات التي تخدم سياق العمل، عندما كان آدم في البيت الطيني المعزول، يصنع الطائرات الورقية ويريها لـ “انكي” عيني آدم في الخارج وسجّانه وصديقه الوحيد! الذي يقول له “كبرت عليها”، لكنه لم يكبر في الحقيقة. كذلك عندما زارته ابنة عمه “إيمان” وقالت له “هنيا لك ابن عمي، كلنا كبرنا وإنت بعدك قلبك أبيض وصغير”. في أحد الأيام افتقد آدم شقيقه “علي” وخرج للبحث عنه في الصحراء، لكنه لم يسعد بلقائه واستقبله بالتوبيخ قائلا: “صرت كابوس، وين ما أروح ألاقيك قدامي”. مع إصرار “آدم” طوال الوقت على مناداة شقيقه علي بـ “علاوي” حتى بعدما أصبح بعمر جده. ختاما: (أناشيد آدم) عمل يستحق المشاهدة، بالإضافة إلى جمال الإخراج والسيناريو وبراعة الأداء التمثيلي، فهو يحمل بعدا فكريا يجعلنا نفكر في رحلتنا عبر الزمن، عن الحياة والموت والخلود. وعن المعتقدات والخرافات الشعبية حول قدرات الجن وتأثيرهم على تغيير مسار البشر. يصنف العمل ضمن أفلام الواقعية السحرية، وأهداه المخرج والكاتب إلى روح “عباس كيارستامي”. وبالعودة إلى سؤال: هل البقاء في مرحلة الطفولة يجعلنا أكثر سعادة؟ في الحقيقة يبدو أنه لا يمكن أن ينجو أحد من صروف الحياة، ومن تعاقب الأحداث حتى وإن بقينا عالقين في طفولتنا، مادام العالم يتبدل من حولنا. فالزمن نفسه ليس المشكلة، بل البشر. *الهباري: رداء حريري رقيق.