فكرة شاردة كغزال!

في الكتابة قد تكون الفكرة التي لم نلقِ لها بالا هي الفكرة الأجمل والشاردة كغزال؛ ولعلها تسلّط الضوء على مساحات لم يقرأها الناس بعد ؛ ومن الصعوبة -طبعًّا- أن تأتي بفكرة عبر كلمات لم تُسبق إليها، أدرك زهير بن أبي سلمى ذلك المعنى مبكرًا: ما أرانا نقولُ إلا مُعارًا أو مُعادًا من قولِنا مكْرُورا ويقول عبدالله الرشود في أبياته الذائعة: ما به جديد وكل ما قيل ينعاد نفس الكلام اللي نقوله نعيده وفي زمن الذكاء الاصطناعي و”البيانات الضخمة”، تشعر بالفعل بصعوبة أن تأتي بجديد، لكن “الفكرة المُلهمة” كما هي القصيدة تحمل سماتها وعنفوانها وإيقاعها الخاص، وإن تردّدت معانيها في ذهن غيرك، وخطرت في عقله وقلبه حدّ التطابق تبقى دوزنتها في أصابع وأوتار المبدعين يعزف كل منهم بطريقته، وبينهم من يتفرّد ويأتي بالغرر. والأفكار وإن تناسخت في شكلها وبعض دلالاتها تختلف بمقدار ما يشحنه الكاتب فيها من أحاسيس وشجون، غير أن الفكرة قد تفرّ من ذهن الحكيم ويدركها غيره يقول حفني نصيف: ولربّما كدح الحكيم لفكرةٍ وسواه أدركها بأول نظرةِ أغبط الكاتب البسيط الذي يلتقط فكرته من أول نظرة، وكما تمرّ به الحياة (حبة فوق وحبة تحت!) يتحرّك معها كشلال المياه الذي يجري طالما تهيأت له الظروف، وترى تموجات مياهه في الصخور التي يعانقها أو يرتطم بها. ولذلك تجد كتابات البعض صادقة شفافة، تعكس ما يختلج صاحبها من مشاعر دون (مساحيق!)، وهي تقتحم قلوبنا لأننا لا نشعر بها فقط ، لكننا نشمّ رائحتها التي تتنّسم عطور ما تمرّ بها من زهور وأورق تفترش قاع النهر، وتتفرّع بعض أغصانها بين حجارته وآكامه، وطبيعي أن تنساب تلك الحروف كنهر رقراق. وحين تسكن لا تلبث أن يحركّها أقرب نسيم عابر. نردّد اليوم عبارات أدباء وشعراء غابت شخوصهم وبعضهم رحلوا عن دنيانا، ومنهم من لا زال يتنفّس الحياة ولا نعرف أين ذهبت بهم الأيام، لكن كلماتهم توقظ ذاكرتنا كما تفعل تلك الروائح الزاكية؛ وذلك من أسرار الكتابة الحية المُلهمة التي يتصل حبلها السري بماء الحياة، وليس لها صلة في عالم (التنظير والتأطير) والمصطلحات المعلبة التي يدبّجها البعض فيعمّون بها عين الكتابة عن كل جميل يمكن أن تراه !