في رواية همهمة المحار لصباح فارسي ..

التمرد على الاستغلال العقلي والجسدي .

من أهم وظائف العنوان تحديد هوية النص، وإثارة ذهن المتلقي وتشويقه. لو حللنا العنوان من المستويات المعروفة نقول: المستوى المعجمي: “همهمة” من الفعل “همهم”، بمعنى تكلم كلاما خفيا يُسمع، ولا يُفهم مقصوده، ومصدره: همهمة. المحار حيوان صدفي مائي، يعيش بلصق صدفاته على صخور البحر، أو أي جسم صلب في قيعان البحار. المستوى الدلالي: المحار لا صوت له، لكن الكاتبة جعلت له صوتا، وإن كان خافتا مثل الهمهمة، فهنا انزياح دلالي عن المعنى المعجمي، حمّلته الكاتبة دلالات عميقة. والمحار – حسب الأساطير - يرمز لدى الفتيات بأنه رفيق الحب والسحر والمجهول... المستوى التركيبي: العنوان مركب من كلمتين ، مضاف ومضاف إليه، وإضافة النكرة إلى المعرفة تفيد التعريف. وهو جملة اسمية حُذف مبتدؤها، وتقديره: هذه، فيصبح: هذه همهمة المحار، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار. المستوى الصوتي: تكرار الحروف الحلقية الهاء والحاء، فهي حروف تتميز بالرخاوة والانفتاح والهمس. هل فكرة الرواية جديدة أم مستهلكة؟ نقول: “نعم”، و”لا”، “نعم”؛ لأن الفكرة العامة تطرقت إليها كثير من الروايات. “لا” لأن الكاتبة أجادت في تشعيب هذه الفكرة لأفكار فرعية متنوعة، وبرعت في تناولها؛ مما منح الفكرة العامة طرافة وجدة وابتكارا. تناولت الرواية كثيرا من القضايا التي تعد من المسكوت عنه، فالكاتبة امرأة تكتب بهموم المرأة، ورغم ذلك الرواية بها من الهم العام الذي يوجّه للرجل أيضا، فروايتها عمل أدبي شامل لا يمكن تأطيره في نطاق ضيق. قُسمت الرواية إلى شَذَرات؛ بعدد ثماني وعشرين شذرة، الشذرة هي الفقرة والقطعة، فقامت الشَّذْرة مقام الفصل. العتبة الرئيسة للرواية هي همهمة المحار، ولكل شذرة عتبتها الخاصة بها، وعناوين الشذرات كلها مركبة من كلمتين ما عدا الشذرة الرابعة عشرة؛ إذ جاءت من ثلاث كلمات بإضافة حرف جر، وهي: “شواظ من نار” وفيها تناص مع قوله تعالى: ( يرسل عليكم شواظ من نار ...) بدأت الكاتبة كل شذرة بمقولة لأحد أبطالها، كأنها تأخذ معها القارئ؛ لتعطيه مفاتيح فك الرموز، وتعينه على فهم المضمون . أهدت الكاتبة روايتها إلى المحرومين، والباحثين عن الانعتاق ثم تختم إهداءها لهذه الفئات باتحادها معهم؛ حينما تقول: “أنا مثلكم تائهة أفتقد بوصلة النجاة” اختارت الكاتبة آلية السارد العليم؛ إذ روت روايتها عبر “ضمير الغائب”، وهو اختيار ذكي، وفيه قدر من الحرية يَبْعُد بالكاتب عن الأسئلة الوجودية التي تطال الكُتَّاب الذين يكتبون أعمالهم بضمير المتكلم. أبطال الرواية نساء، وقليل من الرجال، وسمَّت بطلاتها أسماء ذات صلة بالبحر: جمانة و لؤلؤة ودرة، وسمت أبطالها الرجال بأسماء عامة: محمد و خضر. الموتيف في همهمة المحار هو الموت؛ إذ هناك سيطرة كبرى للموت في الرواية؛ تناولته الكاتبة باعتباره بطلا من أبطال الرواية؛ حيث شرحت أسبابه، فهو لديها نتيجة للفساد، فكأنها تقول: ما مات ميت إلا لأن آخر أفسد. وجاء الموت غرقا وطبيعيا وحرقا وانتحارا حتى آخر مقطع في الرواية كان الموت بطله. المكان فيه اثنية مشتركة بين الواقع والخيال؛ إذ يستوعب فضاء السرد كثيرا من الواقعية وقليلا من الخيال كما في شخصية مبروكة التي نسجت حولها الأساطير، فقيل إنها من الجنيات وقد ماتت ألف مرة، وقيل إن أمها مرت بالدانة وولدتها ودفنت مشيمتها تحت نخلة وغادرت، ولو احترقت النخلة أو اقتلعت ستخرج روحها شؤما على أهل الدانة. حشدت الكاتبة في الرواية كثيرا من الكلمات التي تدخل ضمن الحقول الدلالية للبحر:الغواص والنواخذة والسردال والنِّهمة والقلاف والسِيف... برزت الثنائيات والتضاد: حب وكره/ خيال واقع / موت وحياة/ الظلام والنور/ الفرح الحزن/ العرب والغرب... وهذا يفتح الباب لدراسات نقدية لهذه الرواية عبر مربع جريماس السيميائي. ومنه تناقض بين المظهر والمخبر، كما في قولها: “جاء الرجل وهو يلبس ثوبا ويعتمر غترة بيضاء، ولكنه لم يكن يرتدي شيئا من الفضيلة”. ومن المفارقات أن بطلات الرواية الثلاثة عانين من أقرب الأقربين الذين كان ينبغي أن يكونوا عونا وحماية لهن: جمانة من زوجها، درة من والدها، لؤلؤة من أمها... الوصف هو توقف زمن السرد، وهو رسم بالكلمات، ولابد من تضافر الحدث والوصف، فقد برعت الكاتبة في الإمساك بأطراف عملها، وقيادته حسبما تريد ببراعة، فلم يفلت منها عنصر، ولم تغرق في الوصف على حساب الحدث. جاء الحوار داعما للسرد؛ إذ شكَّل معه ثنائية بديعة خدمت الأحداث. وجاءت لغته فصحى، وكان منطقيا؛ لأنه بسيط وواضح وغير معقد، فكان يشبه الشخصيات التي تتكلم به. وورد في بعض الحوارات استخدام اللغة الإنجليزية، وكان منطقيا؛ لأن المتحدثة زميلة درة في الشقة في لوس أنجلوس. وظفت الكاتبة الرسائل باقتدار؛ باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات” أنستغرام وسناب”. ووظفت تقنية المونولوج الداخلي، وهو ذلك الحوار الذي يكون داخل رأس الشخصية؛ حيث تجعلك “تَسمع” نفسك تتحدث في رأسك ومنه قولها: “لماذا لم تنتصري للؤلؤة، لماذا سمحتِ لها بالمكوث في الهاوية؟” وظفت الأسئلة التعجبية على ألسنة الشخصيات ومنها: “ماذا لو وجد كل منا أغنيته وجرحه الدفين؟ هل يتجاهلها ويمشي مبتعدا ؟” الثيمة في همهمة المحار هي الانعتاق والرفض، وعدم الخنوع للواقع المزري، والتمرد على الاستغلال العقلي والجسدي وغيرهما، وبيان خبث الضباع، وسوء استغلال الأنثى. واختيار كلمة “الضباع” وصفا لهؤلاء اختيار موفق جدا من الكاتبة ؛ فالضبع من الحيوانات المكروهة؛ لأنه يعيش على أكل الجِيَف، ويأكل فريسته وهي حية. النهاية كانت مؤثرة، سيطر عليها الموت، هنا موت درة، وذلك يجعل القارئ يتعاطف مع الشخصية، ويؤمن بقدرة الكاتبة على تصوير مشهد الموت الأخير في الرواية، وأثره على الشخصيات المحيطة “خضر” أما لغة الرواية فقد تميزت بسلامتها ، وبرز التناص القرآني ومنه : “ شواظ من نار” ، و: اركضي برجلك هذا مغتسل بارد وشراب... زخرت الرواية بعبارات شعرية، ومنها: يحنو المطر على شعث جدبهم تطهر شواطئها من عقوق البشر تكنس المدينة المتسخة بحذائها الرياضي رغم ذلك وجدت بعض الهنات اللغوية القليلة ومنها: فتح همزة “إن” في موضع كسر: “ من قال أني أريد أن أكبر ...” وتذكير العدد”سبع” وحقه التأنيث، في قولها: “سبع سلالم”. وعدم نصب المفعول به في: “... لا يعيرونه انتباه”، فالصحيح: انتباها؛ لأنها مفعول به ثانٍ. * أديب سوداني