آثرت البدء بمقولة للروائي ووكر بيرسي «في الحقيقة لا أعتبر نفسي روائيا، بل واعظاً أخلاقياً أو داعٍ... أخبر الناس بما عليهم فعله والتصديق به إن أرادوا العيش.» المشهور برواياته الفلسفية واستعانته بالسرد لتأمل وتحليل قضايا -وجود، ماهية، معرفة واغتراب... إلخ- قد اُحتكرت بشكل كبير... أو ظُنَّ إثمًا بأنها محتكرة فقط على شكل من أشكال الكتابة. وتجاهلت إعادة تدوير مسألة «الخصام القديم ما بين الفلسفة والشعر» المذكورة على لسان سقراط الأفلاطوني في محاورة من الكتاب العاشر للجمهورية الخالية من الشعراء والحكائين والتي يحكمها الملوك الفلاسفة. بل ناسيا حتى أرسطو المشهور حاليا كعرّاب الدراسات المسماة بفلسفة الأدب Philosophy of Literature. إذ كان من أوائل القائلين بأن الشعر -لا التاريخ- للحكمة محب وحليف. ولست بصدد إعطاء لمحة بانورامية عن الدور الذي كانا فيه السرد والخيال حَمَلة لواء الحكمة والعقل: كقصة حي بن يقظان المكتملة عند ابن طفيل بعد كتابة ابن سينا لها وتحسين السهروردي؛ كونها تجربة فكرية عن سؤال المعرفة والعلاقة مع العقل الفعال. ولست أنوي الاستشهاد بـيوتوبيا توماس مور المجسدة لقضايا فلسفية-لاهوتية عند مفكري الإنسانية المسيحية، ولا حكايات إيسوب؛ سلوان سقراط داخل السجن. ولا اعتراف برتراند راسل في سيرته الذاتية «كنت بكتابة الخيال أستطيع التعبير عن أفكار أؤمن بها جزئيا...» أو ما قاله في خطاب ألقاه عام ١٩٥٣«ربما سمع بعضكم أنني قد كرست الثمانين عاما الأولى من حياتي للفلسفة. وأقترح أن أكرس الثمانين عاما التالية لفرع آخر من الخيال!». ولكني أمهد بمقولة ووكر بيرسي لفكرة أدعي بأنها حاضرة وبقوة في الكثير من الأْعمال الروائية السعودية، ولست أنطلق من اعتقاد شوفيني يرى الرواية السعودية كالأفضل. بل لحقيقة تاريخية يسهل التعرف عليها من التاريخ الفكري الإسلامي. إذ أن النقل والعقل كانا، ببساطة، في صراع طويل عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. فظهرت مذاهب لكل منها منهج مختلف ومستقل حتى وإن تشابه، ثم معتزلة وعلم كلام، وفلسفة تلاها تهافت للفلسفة، بعدها تهافت التهافت ومحاولة شهيرة لدرء التعارض ما بين النقل والعقل. لهذا كانت الفلسفة الإسلامية من أّهم القراءات الملهمة لليو شتراوس بفكرة فنّ الكتابة بين السطور وعن أزمة الثقة ما بين الفلاسفة ومجتمعاتهم. يقول ليو شتراوس: إنّ ذلك النوع من الكتابة يحمل في طياته مستويين من المعاني؛ المستوى السطحي: أي المعنى الطافي على ظهر النص، والمقبول اجتماعياً، والمستوى العميق: وهو المعنى الحقيقي الذي يتبناه الكاتب ويرمي إليه، وغالبا يخالف المعتقدات السائدة. وللأستاذة شاديا دروري التقاطه لطيفة -أنقلها بتصرف- عن الدلالة السلبية لكلمة فلسفة -المتأثرة بذلك الصراع- في اللغة العربية ذكرتها في مقالتها الفلسفة البطانية عند ليو شترواس: كـ»ثرثرة أو كلام فارغ» والفيلسوف «إنسان مغرور متصنع، يحاول فهم أشياء غير مهمة، بل أحيانا يتجرأ على منازعة الحكمة الإلهية.» ولطالما التصقت بالفلاسفة تهمة الزندقة والإلحاد، مما دفعهم إلى اللجوء لهذا النوع من الكتابة ذي الوجهين والمستويين خوفا على أنفسهم. تأمل أطول مما سردته في هذه المقالة -بسذاجة وجرأة- يؤهلنا لإدراك الظروف الزمكانية التي أعيد التذكير بأن الرواية السعودية نشأت في ظلها. فمن وسط الحضور المكثف للفريق -الغالب- الذي يتبنى ويروج لخطاب أن النقل عقلٌ والعقلَ نقلٌ وأنهما متساويان ولا يتعارضان، وعلى الرغم من أنه كان الخروج -آنذاك- عن ذلك الخطاب محفوف بالمخاطر؛ إلا أن الرواية السعودية قد خرجت وأضمرت حكمة باطنية جاءت على ألسنة شخصيات خيالية (أي لا وجود لهم في الواقع) ومع ذلك يتأملون واقعنا ويصفونه بشكل يفوق من هم حقا يمثلون ذلك الواقع اليومي... بل أضمرت حبكات ينبغي الأخذ بها كتجارب فكرية حملت على عاتقها اعادة تصوير وتأمل المعتاد، عند الغياب الرسمي للفلسفة. فالسرد فيها لم يكن مجرد سرد، ولا الخيال فيها ترف نتمتع به وقت فراغنا. ولعلي استشهد برواية سعودية أعتبرها خير مثال على ما أرمي إليه: رواية يهودية مُخلّصة لسالمة الموشي. وقد تحدثت عنها في البداية مع اثنين أثق بهما جدا: البروفسور أنثوني بوث -مشرفي- في جامعة ساسيكس، ومع رئيس جمعية الفلسفة السعودية الدكتور عبدالله المطيري، وكان حديثي معهما مشجعا جدا. إذ هي أول رواية سعودية استحضرت شخصية يهودية -هوشع- وأعادت تصويرها كإنسان من حيث هو إنسان... وتحدت من بين السطور الذاكرة العربية المثقلة بكل ذكرى سيئة قد ارتبطت باليهود، والناتجة عن جرائم الآلة الصهيونية المتطرفة، وأيضا عن خطاب يرفض إعادة التحقيق العقلي في أدبيات منقولة، وليست مقدسة ولكنها قُدِّست: عن ملاحم تدور في آخر الزمان، أبطالها الشجر. يهودية مخلصة هي تجربة فكرية؛ تجعلنا نتأمل ماهية الاغتراب -سردا- ونرى الآخر -الإنسان- كإنسان... وتحثنا على مغادرة ذواتنا لتجربة الألم خارجها Empathy. والسرد في تجربتها الفكرية بديلا للاستدلال الاستقرائي أو الاستنباطي، والشخصية الخيالية في نصّها بمثابة الجبر العربي الذي تُستبدل فيه الأرقام بحروف مجردة ومجهولة تُعامل كالأرقام الحقيقية؛ إذ أن الحوارات والتساؤلات الفلسفية التي تبدو -في قراءة سطحية- أنها لشخصيات خيالية... كانت لسالمة -في الواقع- وليس «مجد» أو غيث ولا هوشع ولا إيليانا... ولا حتى جد هوشع– وربما هنا ندخل في مسألة فنية قد تثير «فتنة» عند نقّاد صنعة الرواية، بحجة الدخول في نية المؤلفة. مع أنه «مجرد تحديد النص كرواية أو قصيدة.... هو بالفعل ادعاء بشأن نوايا المؤلف.» كما يقول فيلسوف اللغة والعقل جون سورل في حالة الخطاب الأدبي المنطقية من كتابه التعبير والمعنى. وبالطبع أدرك حاجتي للاسترسال عن ماهية العمل الروائي بشكل عام، ولكن مقالة قصيرة كهذه لا تتسع للاستطراد. وأختم المقالة بما يقوله كل من قنثر كرس وبوب هودج حول اللغة وبأنها «توفر النماذج الفكرية.... وتجربة الناس للعالم تكون من خلال اللغة.» أي أنها توفر قوالب من الأحكام -دوغما- والآراء الجاهزة التي يصعب الخروج عنها... فحرّاس الحمولة اللغوية «يعرفون كيف يناقشون.... يجعلونك تشعر بأنك ضعيف.... يخيفونك.... لقد حفظوا النصوص والتشريعات والأحكام» كما قالت في تجربتها -يهودية مخلصة- الفكرية الروائية سالمة الموشي. لهذا علينا -كما أدعي وبشدة- إعادة التعامل مع بعض الروايات السعودية بشكل جاد، ومن مبدأ أنها نصوص تقدم -بين السطور- قيمة معرفية.