في «رسالة من مجهولة» لستيفان زفايغ ..

عمل مكتوب على قرع طبول الحرب .

عادة ، الروايات التي تُوسم بسمة العالمية يغلب عليها أن تكون شديدة الطول ، لكي تستحق هذه الصفة ، هذا الإجماع على عشقها، هذا الذيوع الذي يطوي لها الأرض من مشرقها حتى مغربها، لابد لها من أن تذيب القراء في عشق أبطالها وحينها ولكي تعيش معهم لا مفر أمامها من الإطالة، لكنها إطالة عذبة شائفة، مطلوبةٌ غير منفرة ، غير أن «رسالة من مجهولة» كسرت هذه القاعدة ! هي ذي رواية لا تتجاوز الستين صفحة تلج الأبدية المخلِّدة من أوسع أبوابها، بضع صفحات كانت كفيلة لكي نغرم ليس بعديد شخصيات ولكن ببطلة واحدة، امرأة واحدة ، مكلومة واحدة ، مجهولة هي، كاتبة هذه الرسالة لبطلها الذي ذابت فيه عشقًا طيلة سني حياتها دون أن يدري عنها شيئًا أو يذكر عبورها إلا كما يذكر الموج الشطآن التي يرتحل فيها ويصب على رمالها مده وجزره ، ثم يرحل مخلفًا على الأثر شيئًا من زبده ! «ر» الروائي الشهير يعود إلى شقته ذات صباح جميل وقد أتم عامه الحادي والأربعين، ويستلم كعادته بريده الصباحي من خادمه الأمين ليلقى هذا الظرف المجهول ، رزمة صفحات مملوءة حتى الحاشية بكلمات متوترة سريعة ، هذه الكلمات كانت من امرأة مجهولة .   منذ البداية جذبتني اللغة التي هي سهلة وعذبة في الوقت ذاته ، لغة شديدة الرقة صافية نقية صادقة اللهجة وكأن كاتبتها سيدة بحق ، سيدة تعاني ، سيدة تحتضر وتعترف لأول وآخر مرة بحبها المدفون قبيل الرحيل ! إن هذه أرق وألطف وأصدق رسالة عاشق تمر بي في حياتي ، يكاد لم يصف أحد العشق الطفولي البالغ ،الوله الذي يتملك الجسد حد الوجع الشديد، الصبابة التي تخنق الروح حد تَقَطّع أنفاسها ،التلهف والخفق الذي لا يحفل ولا يكون ولا يدق إلا لأجل المعشوق، إلا في حضرته وعبوره ، مثلما فعل ستيفان زفايغ في رسالة مجهولته تلك ! والخاطر الرحيد الذي عنّ لي وأنا أتألم حقًا من هكذا وَجد ، هو أنه لا أحد يستحق أن يقاسي كل هذه الآلام،أو أن يطوي بين خافقيه سراً على هذا النحو من الوجع . «أحسست دون وعي بما حزره الجميع عندما عرفوك ،أنك تحيا حياة مزدوجة:حياة تدير وجهها الصافي بلا مواربة نحو العالم ، وأخرى تغوص فيها في الظلال ولا يعرفها سواك ، هذه الازدواجية العميقة ، سر وجودك ، أحست بها صبية في الثالثة عشرة من عمرها فُتنت بك حد السحر من أول نظرة « «أدركت فيما بعد ، أن تلك النظرة المشعة ، تلك النظرة التي تقوم حولك مقام المغناطيس،النظرة التي تغطيك وتعريك في الآن ذاته،تلك النظرة الفاتنة بالفطرة ، تجود بها على كل امرأة تمرّ بقربك ،وكل عاملة في متجر تبيعك شيئًا ، وكل خادمة تفتح لك الباب ،أما أنا طفلة الثالثة عشرة فلم أكن على علم بتلك السمة في طبعك،كنت كالغائصة في نهر من نار، خلت أن ذاك الحنان لم يكن لأحد سواي ، لي وحدي ،وكانت تلك اللحظة الفريدة كافية لتجعل من تلك الطفلة امرأة، وتلك المرأة صارت لك للأبد « ولم أدرِ _وماكنت لأريد أن أدري_ أن ستيفان زفايغ كاتب هذا النص بالغ العذوبة هو كاتب نمساويّ يهوديّ ، والأنكى أنه كان على صلة بسفاح الصهيونية الأول ثيودور هرتزل ، غير أنه في كتاباته وزمنه الذي عاشه قبيل الحرب العالمية الثانية بقليل كان يزدري فكرة الدولة اليهودية ، ويؤمن بأممية أوروبا وباتحادها ، وكتب في مذكراته «كنت أعلم منذ ولادتي بأني مواطن عالمي»، ورغمًا عني لمست هذه الكمات وترًا في قلبي ، فأنا ما شعرتُ يومًا أنني أنتمي لوطن بعينه ! وعلى الرغم أن هذه مشكلة شائعة يواجهها المغتربون عمومًا ، إلا أنني لم أعدّ نفسي مغتربة قط وأنا في وطن مسلم عربي بين أقراني من ذات الدين وذات الأهداف وذات القلب ، تناجيني المآذن التي تنادينا، تناجيني المحاريب التي تجمعنا، والصلوات التي تربطنا ، واللغة ذاتها التي نقع زرافات ووحدانا عبر السنوات في عشقها ،لكنني وطوال عمري تنفستُ أعباء المسلمين جميعًا وكنت دومًا أنتمي لكل واحد منهم، توافقني دموعي التي لا أسيطر عليها حين أشاهد ما يواجهه أي «وطن» منهم، توافقني حرقة العالج مني ، يوافقني اشتياقي ليد واحدة بيننا، لهذا وعلى غرار ستيفان أقول أنا مواطنة عربية إسلامية !  وما عجبتُ حين علمت أن ستيفان زفايغ كان قد كتب هذه المقطوعة الشعرية الرقيقة الأخاذة في الوقت الذي كانت طبول الحرب تُقرع فيه، وأوروبا التي حلم بها متوحدة تنزلق وشائجَ متقطعة ، وكل الثوابت تبدو وقد زُعزعت من قواعدها ، وكل أطياف الحب وأطيار السلام قد حلقت مرتحلة ، هنا في خضم هذا الجوّ المريع والخوف القاتم الخانق ، انزلق زفايغ إلى لبابة قلب هذه المرأة العاشقة واستحالت الطبول في أذنيه أجراس سلام وتسامت الروح كنوتة موسيقية وأغرق بالحب رأسه وعينيه وأذنه ، علّه في هذا الاحتضار المودع المعترف يجد شيئًا من السلام والطمأنينة التي كانت ، ولا غرابة هنا ، ذاك أن الحرب والحب مترادفتان لمفردة واحدة ، للكلمة ذاتها ، فحين تُزلزل الأشياء وينتهي العالم الذي نعرف نهرب إلى مواطن في أنفسنا شديدة الصدق والتسامي والروحانية ، تسمو عن كل الجمادات المخيفة المسّاقطة من حولها