في رواية نعاس للروائي الياباني هاروكي موراكامي ..

العلاقة الزوجية بنهاية مفتوحة .

نعاس، رواية، تأليف: هاروكي موراكامي ترجمة: رمزي بن رحومة الطبعة الأولى 2013 منشورات: مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس عدد الصفحات: 75 رواية قصيرة تقع في 75 صفحة يمكن الاستمتاع بقراءتها في جلسةٍ واحدة، لكن على قدر ماهي قصيرة، فهي مكثّفة في معانيها ودلالاتها، ويمكن القول بأنّها رواية تحليليّة تتحدّث عن جوهر العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة، فبطلة الرواية التي تتولّى سرد قصّتها، تعيش حياةً روتينيّة برفقة زوجها الذي هو طبيب أسنانٍ ناجح، ولديهما ابن واحد في المرحلة الابتدائيّة. رمزيّة الرجل العجوز تبدأ أحداث الرواية عندما تستفيق البطلة الساردة ذات يومٍ من النوم ليلاً وفجأةً ترى ظلّ شخصٍ يدنو إليها، تُحاول أن تنهض لكنّها لا تستطيع أن تبدي أيّ حركة، يقترب الشبح منها فترى بأنّه رجل عجوز، تصف ذلك بقولها: (جسم نحيف لعجوز يرتدي ملابس سوداء ملتصقة به، وقف صامتاً عند طرف سريري. كان شعره رمادياً وقصيراً وخدّاه أجوفان، وكان يُسدّد لي نظرات ثاقبة من عينَين واسعتَين جداً، إلى درجة أنّي تمكنتُ من تمييز شبكة العروق الحمراء داخلهما بوضوح. أما وجهه فلم يكن يحمل تعبيراً البتة، ظل صامتاً لا ينبس ببنت شفة فبدا لي أكثر فراغاً من حفرة بلا قرار.. حاولتُ أن أتحرّك، أن أوقظ زوجي، أن أشعل الضوء.. أن.. لكني وبرغم كل المجهودات التي بذلت لتجميع قواي لم أستطع تحريك ولو إصبعاً واحداً من أصابعي). جاء هذا الرجل للقيام بفعلٍ ما ثم ينصرف، تقول: (كان يحمل شيئاً ما في يده، شيء مستطيل يرسل ما يشبه البريق، تمعّنتُ فيه محاولة فهمه، فإذا هو قنينة قديمة من الخزف الأبيض. بعد برهة رفع العجوز القنينة وبدأ يسكب الماء على قدمَي لكنّي لم أشعر بملامسته لي، كنت أرى الماء على قدمي وأسمع صوت انسكابه من دون أن أحسّ بشيء. استمرّ العجوز في صبّ الماء عليّ دون أن تنقص كمّيته في القنينة ولو قليلاً). اقتبستُ هذه الجمَل لكونها تحمل الكثير من الدلالات المهمّة، مثل: (وكان يُسدّد لي نظرات ثاقبة من عينَين واسعتَين جداً)، و(قنينة قديمة من الخزف الأبيض)، و(كنت أرى الماء على قدمي وأسمع صوت انسكابه من دون أن أحسّ بشيء)، و (استمرّ العجوز في صبّ الماء عليّ دون أن تنقص كمّيته في القنينة ولو قليلاً). تبقى المرأة مستيقظة وبعد العديد من المحاولات، تنهض من سريرها الزوجي إلى جانب زوجها النائم، تنظر إلى قدمَيها، لا ترى أثراً للماء عليهما أو على الفراش، لكنّها متأكّدة بأن رجلاً عجوزاً قد دخل غرفة النوم وسكب الماء، ثم خرج. عمارة الرواية على هذا العمود الفقري تنبني عمارة الرواية، فما الذي يقصده هاروكي من هذا الحدث الغامض؟. تأتي الإجابة على شكل أحداثٍ متسلسلةٍ في الرواية التي وقعت في ستة مقاطع كل مقطع تحت رقمٍ بشكلٍ تسلسليّ، فالمرأة بعد هذه الحادثة لم تعد قادرة على النوم، ولا يقرب النعاس جفنَيها، فتمضي بعد ذلك الليالي الطويلة في أرقٍ وهي تتقلَّب في الفراش وزوجها يغور في نومٍ عميق، تقول: (كان جسمي يستجدي النوم فيما ذهني يتشبّث بيقظته). تنهض إلى الصالون، تقرأ رواية (آنا كارنينا) لتولستوي، مع الأيّام تُعيد القراءة ثلاث مرّات وفي كل مرة تكتشف أشياء جديدة لم تكن قد اكتشفتها في الرواية، تتعرّف على شخصيّة تولستوي من خلال أفكاره في هذه الرواية، تنهض، تركب سيّارتها بعد منتصف الليل، تجوب الشوارع، تقف في بعض الأماكن، ثم تعود في أوقات الفجر، فترى زوجها ما يزال نائماً. تنظر إلى ملامحه، تتعمّق بالنظر في تلك الملامح، ثم تتّجه إلى غرفة ابنها، تنظر في ملامحه أيضاً، ترى الشبه بينه وبين والده، وبين جدّته لوالده. برودة العلاقة الزوجية تتناول الرواية مسألة برودة العلاقة الزوجية بين الزوجَين من خلال يقظة المرأة المستمرّة لأيّامٍ طويلة دون أن تغفو لحظة واحدة، وبين الزوج الذي ينام منذ المساء بعد عودته من العيادة، وحتى الصباح حيث ينهض ويذهب إلى عيادته. بالنسبة للعجوز الذي استطاع أن يتسلّل إلى غرفة نومهما، فهو يرمز إلى إمكانية تشتّت العائلة في حال استمرار هذا الروتين المكرَّر في برودة العلاقة الزوجية، فالرجل لا يأبه بِما تُعانيه زوجته، ولا يعلم شيئاً عن سهرها طوال الليل وقراءاتها، حيث انتقلت بعد تولستوي إلى قراءة أعمال دوستويفسكي، ثم خروجها ليلاً وقضاء ساعات طويلة خارج البيت لعلّها تشعر بشيءٍ من النعاس وترجع إلى البيت، أو على الأقل ترى زوجها مستيقظاً ويكون قلقاً بسبب عدم وجودها في البيت. تُعدّ هذه الرواية بمثابة رسالة تنبيه للأزواج بشكلٍ عامٍ، لذلك فإن هاروكي موراكامي لم يطلق اسماً على بطلة الرواية، أو زوجها، أو ابنهما، أو بعض الأشخاص الذين يظهرون في الرواية، ويكتفي بصفاتهم، مثل الشرطي، العجوز، صديقتي، خطيبها، رجل في الخمسين من عمره. النهاية المفتوحة تنتهي الرواية عندما تخرج المرأة الساردة ذات ليلةٍ من بيتها تحت وطأة الأرق، تخرج هذه المرة من المدينة وهي تقود سيّارتها وتتخذ الطريق السريعة المؤدّية إلى (يوكوهاما)، وكانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً بقليل. تمضي في الطريق، ثم تختار موقعاً كي تقف فيه لعلّ النعاس يقربها فتنام. تقف في ركن يخلو من السيارات: (جلتُ ببصري في العلامات البيضاء المخصّصة لتحديد الأماكن، ثم اخترت الموقع الأفضل بالقرب من عمود النور مستغلّة خلو المكان من السيارات.. ضغطت القبعة التي على رأسي إلى أقصى حد ممكن إخفاءً لكوني امرأة كي أتجنّب المشاكل، ثم ألقيتُ نظرة فاحصة تأكدت من خلالها أن الأبواب مغلقة بالمفتاح). أغمضت عينَيها وهي تُحاول أن تنام، وفجأة تشعر بيدٍ تُحاول أن تفتح باب السيّارة، تنظر جيداً فترى شخصَين وبعد تأكدهما من إغلاق الأبواب، يُحاولان قلب السيّارة حتى تخاف المرأة وتخرج. هُنا تجد المرأة نفسها بين نارَين، نار أن تبقى وتنقلب بها السيارة، ونار أن تخرج وتستسلم لهما. تقول: (لم أستطع تمييز وجهيهما ولا ملابسهما، كل ما أمكنني رؤيته ظلين حالكي السواد يقفان بجانب السيّارة التي بدت وهي محشورة بينهما ضئيلة جداً كعلبة مرطّبات صغيرة، شعرتُ بها تتمايل يميناً وشمالاً، بعد ذلك تلقّى البلّور الأيمن لطخة من قبضة شخص ما). تستمرّ المُحاولات في قلب السيّارة بقوّة والمرأة تبقى في الداخل خائفة من فتح الباب والخروج. إلى هُنا تنتهي الرواية لتترك النهاية مفتوحة لأن مثل هذه القضيّة لا نهاية واحدة لها، بل نهايات مُتعدّدة وفق كل حالة، ووفق شخصيّة كل امرأة. كل هذا يحصل والزوج ما يزال نائماً، وهذا النوم يشير إلى عدم متابعة الزوج لأحوال زوجته، وبالتالي فإن العائلة بأكملها تتعرَّض للانهيار نتيجة اللامبالاة هذه. كانت الزوجة تقوم بمحاولات عديدة كي توقظ زوجها حتى تتحدَّث معه: (قمتُ بعديد التجارب قصد اكتشاف الأشياء التي بإمكانها إيقاظه، جربتُ سكب الماء على وجهه ومداعبة أنفه بفرشاة دون جدوى) نهاية البطلة هي شبيهة بنهاية بطلة (آنا كارنينا) التي انتهت إلى الانتحار برمي نفسها على سكّة القطار. وكأن هاروكي من خلال قراءة بطلته لهذه الرواية ثلاث مرّات متتالية يُؤكّد لجوء المرأة إلى الانتحار في وضعٍ كهذا، لكن هناك نهايات أُخرى يمكن أن تبلغها المرأة المكتئبة، فيمكن أن يتمكّن الشخصان من قلب السيارة وتموت المرأة، يمكن لها أن تفتح الباب في اللحظات الأخيرة من قلب السيارة، فتتعرَّض للاعتداء بأشكالٍ مختلفة. ويمكن للزوج أن ينقذ الزوجة من خلال الاهتمام بها ومتابعة ما يستجدّ معها منعاً من بلوغها هذه المرحلة المضطربة في علاقتها به، فهي شريكة لحياته، وركنٌ أساس من أركان بناء عائلته. ما يعزّز هذه الفكرة أن المرأة قبل زواجها كانت تُعاني من الإفراط في كثرة النوم، تقول: (كان الخدر يجتاحني كل مرة بالانتظام الزمني ذاته لموجةٍ في بحر، فإذا بي أغفو دون أن أنتبه، سواء كنتُ على مقعد المترو، أو على طاولة العمل أو حتى وسط الدرس وأثناء تناول العشاء). وتذكر أنّها ذات يوم نامت نوماً طويلاً: (استغرق نومي سبعاً وعشرين ساعة بتمامها، حتى أن أمي انتابها القلق فترددت عليّ مرات عديدة لتحرّكني أو لتطبطب على خدَّي برقّة، ولكنني لم أكن أستيقظ. نمت طوال سبع وعشرين ساعة مثل حجرٍ ثقيل). كل شيءٍ في الرواية جاء موظَّفاً بشكل دقيق، لا تجد جملةً لا لزوم لها، أو حدثاً يمكن الاستغناء عنه، بل حتى ذكرها قراءة (آنا كارنينا) ثلاث مرات يمكن أن تنبّه بأن إعادة قراءة رواية نعاس أيضاً تعرّف القارئ بمضمومنها أكثر. هاروكي موراكامي روائي ياباني، مواليد 1949 تُرجمَت أعماله إلى 50 لغة، حاصل على العديد من الجوائز العالمية منها جائزة فرانز كافكا للرواية، وهو من المرشّحين البارزين لجائزة نوبل للآداب، من أعماله: اسمع صوت أغنية الريح، مطاردة الخراف الجامحة، سبوتنيك الحبيبة، كافكا على الشاطئ، انعدام اللون.