قصر الغربان
في رحلة ذهابي للمدرسة التي أعمل فيها كمعلّم ماشياً من بيتي أمر بأبنية لا تلفت انتباهي. فلل مستقلة، عمائر سكنية، مكاتب وغيرها. لكن ذلك المبنى المهيب الغامض الذي يُطِل على ثلاثة شوارع تُحيط به أسوار ثلاثة في كعبها رصيف مُلتفّ حولها ليس كبقية أرصفة الحي. مرصوف برخامٍ إيطالي غالي الثمن هذا غير الأحواض المربّعة الشكل. ما بين كل حوض وآخر ثلاثة أمتار تتعالى منها نخلات باسقات ليست كنخيلنا، جذوعها ملساء، ريّانه العسبان، طولها يتجاوز ارتفاع القصر فتضيف له هيبة وفخامة. على ضفتي شارعنا كبقية شوارع المدينة تكتظ السيارات الواقفة أمام المنازل بالطول والعرض. بينما ذلك القصر الذي يحتل مساحة كبيرة لا يوجد محاذاة أرصفته الفخمة سوى تراب الشارع الذي يتم تنظيفه بمكانس مركبات البلدية التي تغسل الاسفلت مرة كل يوم جمعة. لا سيارات، لا حركة توحي بوجود بشر يقطنون القصر. الشيء الملفت للانتباه أن المصابيح الداخلية تُضاء في المساء وتُطفأ بعد مروري في الخامسة والربع صباح كل يوم. أدخل للمدرسة وذهني مشغول بالقصر. اين أهله؟ من هم؟ أيقطنون بصفة دائمة، أم هم من المسايير؟ لماذا لا تُفتح الأبواب حتى الصغيرة منها؟ لماذا لا نرى أحدهم، حتى ولو سائق أو خادمة؟ أثناء عودتي بعد الظهر في كل يوم، أشاهد غرباناً تقف على زاويا القرميد الأخضر الذي يكسو سقف القصر. الغربان الأربعة كأنها تماثيل. لا تتحرك. لا تطير. لم أسمع لها نعيق. لكني دققت في يوم بالنظر الى الأقرب مني. شعرت بقشعريرة كست جلدي. كأني رأيت الغراب يبتسم بكبرياء. وقفت واقتربت من سور القصر المرتفع وتطلّعت نحو المبتسم. أذهلني أن سمعت قهقهة آدمي. نعم متأكد بأنه صوت بشريّ يقول: تعال ادخل لا تخف. سأفتح لك الباب الكبير، تعال. وليّت الأدبار مرعوبا. في صباح اليوم التالي وأنا قادم من بعيد رأيت أشباح جرافات وأذرعة فولاذية تدق هامة قرميد القصر بعنف. اقتربت مسرعاً وأنا ما بين مصدّق ومكذّب. كانت المفاجأة التي جمّدتني لبرهة من الزمن. لوحة تُحيط بها أقماع التحذير مكتوب فيها: قررت بلدية المدينة إزالة العقار بعد ثبوت استيلاء (جني أزرق) على أرض حكومية مخصصة لإقامة مستشفى للمجانين.