- عززت جماعة قرى آل ينفع قيم القرية وعنفوانها وحضورها بلّ كّرست وافتخرت بكلّ تفاصيلها وللحق فإن ما تشاهده في دهاليز وممرات هذه القرية وما احتوته من تناسق بصري عال المستوى ودقة كبيرة في التصميم ويؤكد هذا الصورة البديعة الزاخرة والممتلئة بالأشكال النابضة والتراث المعماري الفريد , هذا الحضور أتى ليعزز التاريخ العتيد والممتد لهذه القرية بما تحمله من إرث وتواصل فاعل وقيمة علمية عٌرفت عن أهلها وبالتالي قياس هذا الأثر وهذه الفرادة تشعر به تماما في فضاءات ومسارب هذه القرية خاصة وأنت تتحدث مع شبابها وكبار السن فيها الذين يؤكدون هذا الرهان والتاريخ الواسع بكلّ تفاصيله وتلكم المعرفة التي قامت عليها تعاملات وعادات وتقاليد أهل المكان حتى لا يكاد يكون أي حصن وحي في القرية إلاّ وفيه مدوّنة تاريخية تحوي العديد من النقوش والقلاع والقصور والذكريات والأحداث والتحف الأثرية النادرة والروايات الخالدة التي ينقلها أهلها. - أقول ما أنّ تهبط في قرية آل ينفع إلا وتشاهد الصورة البصرية الأخرى التي تجمع بين التقانة والهندسة الفطرية ذات الجودة العالية والطابع السحري وتحديدا مع قصص الشداخات (المنافذ) التي قيل أنّها أسست لحاجة أمنية وقيل لأمر جمالي ويقال لضرورة معمارية بيد أنّ الأهم في ذلك هو دقة المعمار وروعة التصاميم خاصة وأنت تتعمق في مقتنيات الحالة وتفاصيلها وأدواتها وضرورتها التي بنيت من أجلها والتي تجعلك أحيانا تقول بأن الترف في مثل هذا له معنى كبير ومنهج أنثروبولوجي هام ما يزال حاضرا بقصصه وشواهده حتى اللحظة ...! - يقول أستاذنا الشاعر والأديب المعروف إبراهيم طالع الألمعي: الأرض كالبشر بينهما مشتركات وتفاصيل كثيرة ولا يمكن أنّ تنفك هذه العلاقة مهما يكن من أمر ووفق هذا الرأي أتت قرية آل ينفع بكلّ هذه الحمولات الزمنية الممتدة وهذا الطراز العمراني وبما فيه من أساليب هندسية في غاية الروعة, هذه القرية حافظت على وجودها وحضورها بالرغم من تغييرات الوقت وصلف الحياة أحيانا, إنسان هذه القرية الرفيع كان يدرك منذ وقت مبكر بالميزات النسبية لقريته وبالتالي جاءت المساهمة منهم مساهمة جماعية تمثل ذلكم في قوة وبأس أهلها وإصرارهم على الحضور وانتصارهم المعلن والكبير على التحديات ومعوقات الرحلة في القرية “الأعجوبة” آل ينفع التي تقع شرق منطقة عسير في صدر الأرض وأعالي الحكايات الخالدة وبالتأكيد لم يكن لهذا المكان أنّ ينهض ويعود إلى الحياة لولا الدعم الكبير الذي حازت عليه القرية من سمو أمير منطقة عسير الأمير تركي بن طلال وسمو نائبه, إضافة للدور الذي تقوم به أمانة منطقة عسير وهيئة تطويرها في إعادة ترميم القرى التراثية باعتبارها أحد المستهدفات السياحية لعسير العالمية. - ومن أجمل وأمتع اللقاءات التي أشارك فيها شخصيا هي من خلال فعاليات قريتنا الفنية وتحديدا في قرية”آل ينفع” منابت الشيم والقيم التي برزت فيها روح المغامرة واستدعاء الكامن وانتصار معلن للقرية في النهاية على الذهنية التي رددت في السابق بأنه لا مكان ولا حضور لفعاليات ثقافية وفنية في فصل الشتاء بعسير هذا الانتصار أتى عبر خمسة أيام ثقافية محملاً بالأرض وبما رحبت من جماليات وطرز عمرانية وفنون بصرية وأدائية انتشرت وانبثّت في طرقات هذا المكان الأثير من خلال العزف الموسيقي المنفرد وورش الرسم المفتوحة والندوات الفكرية بمشاركات متعددة من مهتمين ومختصين وأكاديميين, ويؤكد ذلك ما أستقبله الحصن الشرقي في ردهاته من الأعمال المرشحة للمعرض التشكيلي والتي جاءت في أكثر من خمسة وعشرين عملاً تشكيليا تنوعت فيها المدارس والاتجاهات والمذاهب التشكيلية والطرح الفلسفي الذي تناوله الفنانون المشاركون ولكنهم في النهاية كانوا يعززون هوية المكان وطقوسيته في إنتاجهم إذ لم يخل أي عمل مشارك من نزعة تراثية كانت تمثل شرطا فنيا في المسابقة وهذا ربما أوجد حالة اشتباك إيجابي بين الفنان والمكان وفق بانوراما بصرية امتدّت إلى ممرات هذه القرية, وفي الجانب الأخر المقابل جاءت معارض الفن الفوتوغرافي لبعض فناني وفنانات منطقة عسير تجاوزت هذه الصور مرحلة الفرز الأولى وحققت شروط الحضور الفني الذي وضعه القائمون على هذه الفعالية ,وما بين الجهتين كانت الورش التدريبية تضرب صدر القرية بتنوع هائل إضافة لأركان النحت التي أضحت التجربة والممارسة فيها جديرة بالحضور للفنان في منطقة عسير بلّ وتستحق التشجيع والتعزيز بدليل ما قدمته المراسم المفتوحة التي امتزجت مع الطبيعة والمكان حين تألق الفنانون المشاركون على نحو متقن في تقديم أعمالهم الفنية ورسمهم المباشر وهذا مرده أولا وأخيرا إلى تعالق الفنان مع الطبيعة ومحاكاتها وأسلوبية الاشتغال للفنان ذاته والتي بدت أحيانا واقعية وطبيعية وأخرى تجريدية وتكعيبية رمزية على الجانب الأخر والتي قاربت بشكل غير مباشر مع سنابل الأمل والفرح والصباحات المشرقة الموشومة على عنق الحياة في فيلم افتتاح ملتقى قريتنا الفنية الذي جاء ممهدا للحكاية الخالدة التي رددتها ألسنة المحبين وحناجر المؤدين للحياة في عناق سرمدي مع صدر الأرض المحمّل بنواميس الرجولة وأزياء الحياة حملت مفرداته الثياب الزاهية والمصنف والمجند والمسبت وأنشودة الضباب “الغفيرة” وبلوحات غنائية كانت تستنطق تفاصيل المكان وتعتد بالتاريخ وتنسج خيالات الفنّ الخالد والترف الروحي من سرف اللذة وجموح الفطرة وسلطوية اللحظة وسلطنة الكلمة التي أبدع فيها الشاعر الصديق: عبدا لرحمن عسيري في رسم مسرح الحوار والحكي والتراث القصصي المستقر في الشعور الإنساني الفني المغنى بعذوبة الأرض وألحانها الوجدانية مستندة على شهامة ورجولة وإباء الرجل السعودي العاشق لوطنه في سره وجهره جاء هذا العمل محملا بالعديد من الرسائل التي تحافظ على كينونة الأرض وعاداتها وتقاليدها, هذه الأعمال التي اعرفها جيدا بحكم اشتغالي عليها كثيرا في فترات سابقة أقول بأن الطقس والقصص الشعبي كان المظهر السائد في بعض تفاصيل اللوحات المقدمة التي بدأت مستهلة بمشهد مسرحي بين شخصيتين واقعيتين كانت الأولى ترتهن للخطاب التاريخي الروائي الباحث بينما جاءت الشخصية الثانية لتمثل القيمة المكانية بكلّ تجلياتها وبالتالي كانت ملامح العمل تباعا تشي بحالة من الفرح والزفة السرمدية والأغاني الشعبية التي رددها المشاركين في العمل عبر خمس لوحات مغناة . - ملتقى قريتنا الفنية أو كما أسميته “بورتريه الفنون البصرية” تجربة جديرة بالوقوف عندها والإفادة منها باعتبارها أحد مسارات القوة الناعمة الحقيقية التي مصدرها الأرض, نفذه باقتدار عال هيئة تطوير منطقة عسير وساهمت فيه جمعية الثقافة والفنون ذات التاريخ الطويل بشكل فاعل في الإعداد والتخطيط والتنفيذ إضافة لجمعية جسفت عسير وإلى محطات فنية قادمة تحقق المتعة والفائدة كونوا بخير .