قراءة في مجموعة عبد الله المطمي القصصية (أحلام ناقصة)..
سلسلة مترابطة من الثيمات التي تستكشف وتضيء، واختزالات جامعة ورؤى و مفارقات، وتحويل للعادي و المألوف إلى جماليات السرد وتجلّيات الدلالة.
اللافت في هذه المجموعة أن معظم عناوينها أسماء معانٍ (مصادر) تشير إلى مطلق الدلالة؛ وهو ما يناسب الحكمة المجرّدة والرؤية الفلسفيّة ، ولعلي أجازف فأقول : إن هذا اللون من القصص القصيرة جداً يتميز بإمكانات التأويل التي تفضي في نهاية المطاف إلى خلاصة تصب في هذا الاتجاه ؛ ولو أردنا أن نلقي نظرة طائرة على هذه العناوين لوجدنا أنها تتمحور حول الحراك الإنساني في سعيه الدؤوب في الحياة وأحلامه المبتغاة ثم مواقفه وحالاته والتزاماته وآماله واتجاهاته وانتماءاته؛ ثم نكوصه وانتكاساته وعجزه ولامبالاته وشكوكه وتوجسه وخذلانه، تمرّده وقدره وأحزانه وما إلى ذلك؛ فثمّة اتجاهات ثلاثة : نشاط إيجابي وآخر سلبي ، وثالث بين بين ، وأما الإيجابي فيتوزّع بين ماهو حاصل و ماهو مأمول ، وما هو قيد الوجود في راهنيته؛ وأما الحراك السلبي فهو رهن لحظته في جانب منه قد وقع ولا راد للقضاء فيه وهو الغالب، أو مايمكن أن يتحوّل ويتبدّل؛ فهو مناط حكم الأقدار فيه و السعي إلى تغييره؛ وهذا كله مُجمل النشاط الإنساني الذي تستخلص منه الحكمة ونستوحي العِظة. ولعل هذا كله يوميء إلى خلاصات ورؤى؛ ولكن الأهم من ذلك كلّه الأسلوب الذي تشكّل ليفضي إليه،وهو ماأحاول في هذه القراءة مقاربته في أولى قصصه (عودة) حيث يتكيْ على حدثين : في الزمان والمكان ؛ أما الزمان فيعتمد على المفارقة بين معلوم (خريف العمر)وآخر مجهول نصّاً و معلوم ضِمناً (زهرة العمر ) و مفارقة أخرى (الرجل و الأنثى) ثنائيات متضادة متآلفة جمعهما الكاتب في حدثين متتاليين في الزمان ومتطابقين في المكان ؛ جمع كثيف بحمولة دلالية ثقيلة ورؤية فلسفية جامعة تفضي من العزلة إلى التواصل ومن الذبول إلى التفتّح ، ومن اليأس إلى الأمل؛ تقنّبات متعددة ورمزيّات مكثفة و إيجاز دال ومفارقات عديدة ؛ حصيلة ثريّة دالة ؛ أما قصة(أفعى) فهي في تسلسلها متمِّمة لما قبلها في كناية شائعة ورمزيّة مألوفة ، ولقطة مشهديّة في صورة سردّيّة لمشهد البكاء ظاهراّ يقابله اليقين باطناً ومفارقة الحقيقة الظاهرة و الوهم الباطن. والتضاد البائن :أنثى في صورة أفعى ومفاتن بارزة ورسم خافٍ ، وثمّة سؤال: أين الرابط بين النصّين ؟ والجواب الأنثى البارعة في إدخال البهجة والخذلان. وفي قصّة (أحلام )تعالق مع النصين السابقين في الصورة الوصفية المشهدية الأرجيلة و الدخان و البهجة و الانخداع بالمظهر ؛ على النهج ذاته الأنثى بين الحقيقة و الخيال ، مفتاح الفرج وإدراك الوهم : التصحّر و الخضرة، في قصة (حياة) لقطة وامضة وخطاب باطن و وهم مدرك و رجاء بالبقاء مفارقات وامضة ومفردات جامعة في مشهد ساكن وفي ظاهر متحرك في باطنه ( يخربش ويستذكر ويفاجأ ويدرك الوهم و يتشبث به ) إنها القصة اللقطة التي تؤطر شعريّة النّص وتتواصل مع محور المجموعة (حب الحياة و فلسفة الوجود وتقاطع طرفي الجنوسة) مفارقة ساخرة وخطاب مفارق في قصة (هيبة زائفة) وخروج من مربع العلاقة الأنثوية الذكورية إلى تهكّم على ظاهرة العظمة الزائفة و الجوهر التافه، في لقطة سريعة وتَفنية سينمائية متقنة المونتاج وترتيب السيناريو (حشود محتفية وجموع ساخرة في تعاقب اللحظات والزمن المختزل) مشهدان متناقضان في لحظة ذات بعدين ووجهان لعملة زائفة تمثلها أخلاق هذا الزمان . وفي قصته (عري) يبدو أكثر وضوحا في فضح المخبر وقلة الاكتراث للمظهر ؛ فالتعاقب اللحظي ثمرة الخطاب الكاشف في ومضة واحدة .وفي جملتين اثنتين يختزل المقدمات و النتائج ،في قصة (عجز) يرسم المشهد و يقرر المصير ، يطلق العنان للخيال ليتصوّر المسكوت عنه و يسد الفجوة : اثنان متهمان (للقاريء أن يتصور التهمة) مراكمة الحزن و القفص المحكم والتراسل الأصم بين المتهمين : المشتركون فيها و العقاب، مثلث أطرافه المتهمان و الخطيئة و العقاب، ودينامية التخييل التي لتحلّق بلا قيود ؛ ثمة ماهو معلوم (العقاب) و ماهو مجهول (الأسباب ) وفي قصة(بحث) المجهول مُرَكّباً البحث (عن ماذا؟) و الغثور (على ماذا؟) ويطلق العنان لتخيّل الأحداث ؛ فنحن أمام طرفي المعادلة الجبريّة التي تنطوي على الجهل بالبحث ونتائجه ، فالفجوة هنا متّسعة وعلى المتلقي أن يسدّ الفجوتين المبحوث عنه ونتائج البحث، والملوم الوحيد هو التفرّس في وجوه الناس واستكشاف سرائرهم و مراكمة التجربة التي تفضي إلى المعرفة ؛ خيال طليق و حكمة بالغة . وعلى النهج ذاته؛ ولكن في مساحة مشهديّة أكثر اتساعاً و شريط لغوي أطول، حيث تكثر التفاصيل نسبياً و تتعدّد الأمكنة وتضطرب الأفكار امتداداً للثيمة السابقة البحث عن المعلوم و المفارقة مع المجهول، البعد السيكولوجي الذي يتمثل في الاضطراب و فقدان الاتجاه ، و الوقوع في شرك دوامة تنعكس على السلوك ؛ تصوير مشهدي يمثل معادلاً نفسيّاً لما يدور في خَلَد الشخصية وعقلها الباطن فينعكس على الحراك الخارجي ، يتم فيه توظيف الأمكنة السوق و السيارة و البيت والأشياء و الأحياء (الزوجة ) والعبارة الاستهلاليّة الوصفيّة التي تلخّص الحالة ثم يليها المشهد الحركي الذي يتطوَّر إلى حوار في حبكة دائريّة تبدأ بالسوق و تنتهي إليه، قصة وامضة متعدّدة الأبعاد، تتمثّل فيها مجمل عناصر السّرد. والعتبة الأولى (ذاكرة) تنطوي على المفارقة الرئيسة التي يضطرب فيها التذكر و النسيان. وللفلسفة الوجودية - ليس بمعناها المذهبي بل صفتها الدالة على الكينونة - نصيب يتمثّل في قصة (عُمر) فهي تختزل معنى الحياة بحمولتها القاسية لطفل انتبذته الحياة مكانا قصيّاً على رصيف الحياة في وقدة الحَرّ في لحظات زمنيّة مثقلة بالمعاناة مستثمراً بساطة الترميز ورهافة المعنى في المفارقة اللونية بين الأخضر و الأحمر ، وملتقطاً من تفاصيل الحياة اليوميّة ما يعبّر عن المعاناة مكانيّاً و زمانيّاً (البيت و الشارع) و(وقدة الحر وسطوة البرد) و(حركة السيارات ووقوفها) وفي إطار السلطة الخفية التي تتحكم في السلوك تأتي قصة (سلطة) فثمّة مايبدو مخاتلةً للوعي ؛ بل توريَة تتجاوز المفهوم البلاغي التقليدي ؛ فالحديث عن المرأة التي تسيطر على الجدار في معناها القريب يشير إلى شخصية حقيقيّة حيّة ؛ ولكن المعنى البعيد هو صورة المرأة بوصفها المجرّد ودلالتها المطلقة؛ والقصة تتجاوز المعنيين معا لتشير إلى دلالة أبعد من ذلك كله فتلامس سقف التجريد بالمعنى الوجودي أي المرأة ا(الجندر) المرأة الأنثى وسلطتها الفاتنة ، أو المرأة ذات السلطان وربما كان هو الأقرب من خلال الإشارة الى التلصّص و المراقبة وعدم الجرأة على الانتقاد من قِبل الآخرين ؛ فهي تتراءى لأهل البيت كله شبحاً مخيفاً . وفي هذا الإطار تأتي قصة (حل) لتقدم مشهد العجز وفقدان الحيلة و الاستسلام إلى القدر عبر الدعاء ، لوحة فنية ناطقة. وفي (لامبالاة) امتداد للعجز ولكن دون التماس لطريق النجاة كما ورد في القصة السابقة ؛ فثمة استسلام يائس و مشهد يعبر عن سلطان القوة و فقدان الحيلة ؛ ثمة تشابه وتباين بين القصتين ، فالقصة الثانية توحي بالمباهاة لأن اللصوص فيها جماعة هيمنتهم تأتي من باب القوة الحقيقية ، وتمثل سطوة الجماعة أصحاب الصولجان؛ فهي قوة مرئيّة ومنظورة ؛أما في القصة السابقة فالسلطة معنوية طرفها المهيمن هو الضعيف القوي (المرأة) فقوتها ذاتيّة مُضمرة ؛ والكاتب هنا يلمّح إلى ذلك بتسليط الضوء على لونين من ألوان النفوذ،أولهما المعنوي غير المحسوس، و الثاني الظاهر الذي يمتلك القوة الماديّة و العدديّة ، نموذجان مستلّان من الواقع بألمَحِيّة واضحة . أما النمط الثالث من هذ المنظور فيتضح في قصة (عبوديّة) وهي التي يتم السعي إليها وقبولها عن طيب خاطر، وتتضح في جمل ثلاث تصوّر ثلاثة مشاهد : النموذج الذي يفاخر بالحريّة ثم يشتري الأغلال ليزيِّن بها مِعصَميه ، مفارقة بين القول و السلوك: التفاخر بالحرية ، شراء العبودية ، التزيّن ، تشكيل ثلاثي الأبعاد قائم على الادِّعاء و الفعل والتجمُّل , في قصته (موقف استكمال للمفارقات السلوكيّة القائمة على الظاهر و الباطن ؛ البكاء و الابتسام ثم الأداء والواقع طلب الحياة وسط الشعور بالفقد ، فلسفة ذات بعد وجودي أتقن الكاتب تشكيلها في صورتين متناقضتين ومفارقة صادمة. وفي قصة (حلم ناقص) - القصة التي جاءت عنواناً للمجموعة كلها - وهي تتأسّس على مفارقة كبرى بين الحلم و اليقظة و الواقع و الخيال وانتباه الجوارح وأحلام اليقظة، قصة وقائعها مألوفة ولكن الانزياح فيها قائم على لونين من ألوان الانتظار: انتظار العشاء وممارسة الحلم ؛ ومن ثم المفاجأة وتَبدُّد الأمل : غوص في اللاوعي ومواجهة للوعي “ وهذا لون من ألوان الصدمة التي تثير الدهشة وتمنح القصة سمتها الجمالية. أما قصة (الطريق) فتنتشل الرؤيا من بين مخالب العادي و المألوف وتستنقذها من بين النمطي و الدارج ؛ فثمة أحداث فاصلة تنبثق من ممارسات تافهة تتمخّض عنها نتائج فاصلة : زوجان شابان أثمرا ذريةً ضِعافاً كانوا ضحية خلاف تافه . في قصته ذات الشريط اللغوي الأطول في المجموعة (حفلة) استثمر تقنية المشهد في إيقاعاته البطيئة وإضاءاته المفارقة بين الخفوت و السطوع ، ودراميته بين النار و الفراشة ،و النوم واليقظة ، والعزلة والأنس، وسلسلة المفارقات التي انتهت إلى موت الفراشة بما يحمله ذلك من رمزيّة توميء إلى النهايات الحتميّة ، حيث يصوِّر المشهد الحياة وكأنها حفلة كبرى تنتهي بإضاءة ساطعة لحقائق وجوديّة تتمثّل في انبلاجة الشمس مضيئةً مصير الفراشة. وفي قصة (هيام) يستأنف رحلته نحو اكتشاف الوهم وأسرار الحياة ووَهم البقاء، يخدعه - وهو هنا يتعمّد إغفال الاسم لتكون الدلالة مطلقة و الحكمة بالغة الجمال - تستهويه المتعة فيضلّ الطريق . وفي قصته (حالة) يستأنف استكشاف فلسفة الحياة القائمة على ثنائية الابتداء و الانتهاء و الذروة و الهبوط في مستقر النهايات، فيصور مشهد الذهاب إلى العزاء و الإياب إلى الغناء ؛ مفارقة وجوديّة تُختزل عبر الإبحار في باطن الشخصبة هواجسها ورؤاها وفي سلوكها الظاهري رمزيّة الذهاب و رحلة الإياب وفي الإطار ذاته جاءت قصته (استدراك) التي عزف فيه على الوتر نفسه مُعبِّراً معنى الحياة وجوهر الكينونة في المفارقة بين الشباب اللاهي و الشيخوخة الرزينة و إهدار المتعة و استدراك زمنها الضائع ، والغوص في أعماق النفس البشرية التي تختط طريق الخلاص ثم نراه يأسف على إهدار زمان المتعة في مفارقة صادمة . وهكذا يمضي في العديد من نصوصه السرديّة عازفاً على وتر الوقت و الظاهر و الباطن و الهواجس و الرؤى و الخواطر في لغة مختزلة ومشاهد وصور وسرديّات موجزة وكثافة دلاليّة.