هذه هي الترجمة العربية لكتاب الباحثة الألمانية هلغي باومغرتين ، الذي صدر بالألمانية عام ٢٠٢١م ، ولكن الطبعة العربية صدرت بعد بداية طوفان الأقصى بأيام ، فاقتضى الأمر ان تكتب المؤلفة مقدمة إلحاقية للمقدمة الأساسية. تقول الكاتبة التي عملت لفترة في جامعة بير زيت: كألمانية أقف مذهولة أمام الهجوم المتكرر والمخجل لكل ألماني ذي ضمير على الفلسطينيين، ذلك أن الفلسطينيين يقبعون منذ عام ١٩٦٧م تحت الاحتلال في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة في خرق واضح للقانون الدولي، وقد سُلبوا حريتهم، إن إسرائيل قد أقامت نظاما استعماريا استيطانيا في كامل المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن، وأن الفلسطينيين بحسب جميع مؤسسات حقوق الإنسان الدولية المعترف بها عليهم العيش في ظل تمييز عنصري، فهذا ما لا تدركه الطلائع السياسية والفكرية الألمانية، وليس هذا فقط: فالأبارتايد والاستعمار الاستيطاني يفضل المرء في ألمانيا عدم الحديث عنهما، فقد يفقد المرء عمله، أو قد لا يحصل حتى على وظيفة، ولكن يتم إخراسه بشكل مبرمج. يقوم فنانون فلسطينيون على غرار محمد الحواجري من غزة برسم صور للهجمات الجوية المدمرة للجيش الإسرائيلي وعنوانها “غرنيكا غزة” يتم التشهير بهؤلاء الفنانين كمعادين للسامية ويهانون بتقزز ألماني متغطرس عصي على الاحتمال، ففي نهاية الأمر، هكذا هو التفسير الألماني المهيمن (والذي مثلته الحكومة ووسائل الإعلام): بلغت وقاحة الفلسطينيين حد تشبيه الهجوم الصهيوني على غزة بالهجوم النازي على قرية جرنيكا الإسبانية، واستيحاء رسوم العظيم بيكاسو للتعبير عما يحدث، مثل ذلك لا يجوز في عرف الديمقراطية الألمانية،! رأي السيدات والسادة في برلين أن الفنانين الفلسطينيين قد تجاوزوا الخطوط الألمانية الحمراء. كان ذلك رد الفعل الألماني حين عرضت لوحات لرسامين فلسطينيين في معرض للصور في معرض الفن الدولي الذي يقام في مدينة كاسل بألمانيا، ولم يتوقف رد الفعل الألماني السيء عند ذلك، بل تعداه ليحول رسامي الكاريكاتير ناجي العلي وبرهان كركوتلي إلى أمثلة على العداء للسامية، إلا أن النيابة في مدينة كاسل قررت في أبريل عام ٢٠٢٣ أنه لا يتوافر اشتباه أولي بارتكاب جنحة تستدعي ملاحقة جنائية ورفضت المباشرة بإجراء التحقق. في هذا الكتاب تتابع الكاتبة التاريخ الفلسطيني، وتدلل بوضوح على ما يتعرض له الفلسطينيون من اضطهاد عنصري، وإبادة عرقية، معتمدة على ما صدر من وثائق في الدولة الصهيونية وخاصة تلك التي لم يجر الكشف عنها إلا بعد خمسين عاما من الأحداث لدواعٍ أمنية. وتؤكد على أن الألمان لا يرون إلا جانبا واحدا من الصورة لأنهم لا يريدون إلا أن يروا ما تروجه الدولة الصهيونية، والكاتبة المتعاطفة مع الفلسطينيين توجه لهم كل الانتقادات التي توجه لهم في ألمانيا، لكنها حين تظهر الجانب الآخر من الصورة يتبين للقارئ أن أفعال الفلسطينيين في أغلبها دفاع مشروع عن النفس تقره كل القوانين الدولية، وهم لا يملكون الكثير الذي يدافعون به عن أنفسهم، الدولة الصهيونية لم تُبق للفلسطينيين سوى العنف ليحموا أنفسهم، فهي تمارس قمعا شديدا ضد كل منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والإسرائيلية على السواء، الكاتبة تدلل على ذلك، وكذلك تمارس إرهاباً على الصحفيين وعلى المصورين، مقتل شيرين أبو عاقلة لم يمنع استهداف صحافيين آخرين وقد سقط منهم اليوم عشرات القتلى، وهكذا يمضي الكتاب في إيضاح جوانب الصورة بشكل لا يحتاج معه الرأي العام الألماني و حتى العربي للتشكيك في أن أصل المشكلة هو في عقلية الإبادة الصهيونية، وحربها الدائمة على الفلسطينيين، وهو ما أعطى للكتاب عنوانه. في المقدمة للطبعة الألمانية تقول الكاتبة أن هذا الكتاب يحاول تحليل الصراع المركزي بشأن القدس وفلسطين من وجهة نظر الضحية، قصة هذا الكتاب بدأت عندما تلقت المؤلفة رسائل من عدد لا حصر له من المواطنين الألمان ممن يدينون بالإسلام شاكرين لها على ما جاء في مقابلة قصيرة معها لم تستغرق أكثر من أربع دقائق، أذيعت المقابلة مع مجلة الظهيرة، في قناة التلفزة الألمانية الثانية، كانت المقابلة غير مألوفة للمستمع الألماني، أن يوجه شخص ما في التلفزيون الألماني نقدا صريحا لظلم الاحتلال الصهيوني، وأن يتم تصوير المسلمين الفلسطينيين في القدس على أنهم أناس عاديون لا يختلفون عن غيرهم، روت الكاتبة كيف يُمنعون من الاحتفال بأعيادهم من قبل الصهاينة، روت كمية العنف الذي يمارسه ضدهم جنود حرس الحدود في الدولة الصهيونية في باحة المسجد الأقصى، وكيف يقاومون باستبسال بوسائل لا عنفية، وإن نحا بعضها خارج المسجد الأقصى شكلا عنيفا لكن وسائله لا ترقى إلى الأسلحة التي يواجههم بها الجيش الصهيوني . يقدم الكتاب الرواية الحقيقية لما حدث في أيار عام ٢٠٢١، وهي نموذج مصغر لمعظم الحروب على غزة وأقصرها إذ دامت أحد عشر يوما فقط. البداية استفزاز متواصل يتصاعد يوما بعد يوم من حرس الحدود الصهيوني للمسلمين المحتفلين برمضان في ساحات باب العامود و باحات المسجد الأقصى، مع الأيام انقلبت ساحات المسجد إلى ساحة حرب أُصيب خلالها الكثير من الفلسطينيين بجراح بعضها خطير جدا، تزامن ذلك مع تصعيد مستمر منذ سنوات في حي الشيخ جراح على بعد قليل من باب العامود، قاطنو حي الشيخ جراح هم أصلا مهجرون تم طردهم من قراهم على يد الجيش الإسرائيلي بأوامر مباشرة من بن جوريون عام ١٩٤٨، سكن هؤلاء حي الشيخ جراح منذ ذلك الحين بموجب اتفاق بين الأردن الذي كان يحكم القدس آنذاك وبين الأونروا “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” التابعة للأمم المتحدة، أراد مستوطنون اسرائيليون الحلول محلهم، أي أرادوا السكنى في حي فلسطيني وإجلاء سكانه، ادعى الصهاينة أنهم قد اشتروا هذه الأرض في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحكمت له محاكم اسرائيلية بذلك ، وكان يفترض أن يخلى الفلسطينيون بيوتهم التي يسكنونها منذ ثلاثة و سبعين عاما، يتضامن مع الفلسطينيين في تظاهرات يوم الجمعة يهود يساريون إسرائيليون منهم ديفيد غروسمان. كل يوم تتفاقم المشكلة، آخر جمعة في رمضان قامت القوات الصهيونية بإعاقة وصول الناس للمسجد، رد شباب بإطلاق عبوات بلاستيكية فارغة كإشارة للشرطة بأن عليهم الانسحاب، رد الجنود الصهاينة بإطلاق قنابل صوتية ورصاص مطاطي، وعبر مكبرات المسجد أهاب شيوخ المسجد المسلمون بالجنود الصهاينة عدم اقتحام باحة الحرم، ولكن بلا جدوى، خلال وقت قصير أُصيب أكثر من مائتي شاب فلسطيني برصاص مطاطي، واضح من مناطق الإصابة ان الجنود كانوا عن عمد يستهدفون الرأس والوجه، أحد المصورين الصحفيين أصيب برصاصة في الكتف، كُسر له ضلع، لم يتمكن المصور ولا أي من المصابين الآخرين من الخروج من المسجد الأقصى بسبب الحصار حتى نهار اليوم التالي. بدأت المظاهرات الفلسطينية في رام الله وأخذت تنتشر في الضفة رغم ان السلطة الفلسطينية حاولت قمعها بسبب الضغط الصهيوني، هنا وجهت منظمة حماس في غزة إنذارا: ابتعدوا عن المسجد الأقصى، وأوقفوا العنف، كان على الفلسطينيين أن يتضامنوا مع بعضهم. رفضت اسرائيل ايقاف العنف، قامت أربع منظمات فلسطينية بإطلاق صواريخ من غزة، ردت اسرائيل بقصف وحشي أحدث دمارا هائلا، قتل ٢٥٠ فلسطيني أغلبهم مدنيون ومنهم سبعون طفلا وجُرح ألفان، دًمرت مساكن ومستشفيات ومدارس، بالمقابل قُتل ١٣ إسرائيلي بينهم طفلان وجرح ١٢٩. تقول المؤلفة إن ما وصفته أعلاه هو تطبيق عملي من الجيش الإسرائيلي لـ “عقيدة الضاحية” وهي أسلوب طوره الجنرال غادي آيزنكوت في أعقاب حرب لبنان عام 2006, وطبقت في غزة ابتداء من حرب عام 2014، تقوم هذه العقيدة على استخدام عنف غير متكافئ وتدمير البنية التحتية المدنية لأن مقاتلين في غزة يمكنهم استخدامها، (هذا ما نراه بأقصى أشكال البشاعة في حرب ٢٠٢٣- ٢٠٢٤) . في ٢١ مايو ٢٠٢١ تم الاتفاق بوساطة مصرية على وقف لإطلاق النار وبقي قائما حتى موعد تأليف الكتاب في يوليو من نفس العام، لكن الوضع الذي كان قبله لم يتغير قط، بقيت غزة محاصرة، واحتفظ الفلسطينيون داخل اسرائيل بوضعية مواطنين من الدرجة الثانية، وتدخلت الشرطة الإسرائيلية ضد المواطنين الفلسطينيين حصريا وبلا هوادة في أي مكان تقطنه غالبية فلسطينية مثل القدس الشرقية، وكذلك في المدن المختلطة مثل يافا واللد، أما في الضفة الغربية فقد استمرت الاعتقالات على نطاق واسع. وتكرر استخدام الأسلحة النارية ليكون واضحا من يملك السلطة في البلاد. حي الشيخ جراح بقى مغلقا يُسمح بدخوله للسكان الفلسطينيين بعد تفتيش بالغ القسوة، ويسمح للمستوطنين الصهاينة بدخوله دون مشاكل وعمليا بلا تفتيش، أما في غزة فيعيش الناس عمليا على حطام بيوتهم و بلا شبكات كهرباء وشبكات مياه، وبحد أدنى من المواد الغذائية، ولا مواد للشروع في إعادة البناء. احتفل الفلسطينيون بأنهم صمدوا حتى النهاية، رغم الثمن الباهظ جدا. الاعلام الألماني وصف المقاتلين الغزيين بأنهم معتدون على إسرائيل التي تدافع عن نفسها أمامهم. تتساءل الكاتبة: بماذا تعلق الأمر وبماذا يتعلق حتى يومنا هذا؟ هل يتعلق الأمر بمقاومة الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي ونضالهم من أجل الحرية والعيش بكرامة؟ أم يتعلق بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس؟ طبعا الدفاع عن النفس من خلال حرب هجومية تستهدف المدنيين أولا وأخيرا؟ الجواب على هذه الأسئلة من حكومتي النمسا وألمانيا لا لبس فيه ولا غموض، في فيينا رُفع العلم الإسرائيلي على مكتب المستشارية النمساوية، وفي برلين كان الحديث حصرا عن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، و في زيارته الخاطفة لإسرائيل ركز وزير الخارجية الألماني السابق هايكو ماس على الموقف الإسرائيلي فحسب، أما الناس في قطاع غزة، فقد بدوا كما لو كانوا غير موجودين بالنسبة إليه؟ يظهر الصراع في منطقة الشرق الأوسط في ألمانيا والنمسا كما لو أنه يتخذ بعدين أحدهما: تقوم النخب السياسية بطمس الصورة الحقيقية للوضع على الأرض بشكل منهجي. على الأقل في تصريحاتها العلنية، أو تدركه من خلال وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية فقط. ثانيا: الخطاب المهيمن قائم على سردية مشوهة لا تدرك التطورات الحقيقية على الأرض. الوضع الحقيقي على الأرض يتألف من نظام استعماري، استيطاني، عنصري، يعتمد تطهيرا عرقيا، شكله خاص بالشرق الأوسط. يتجاهل الخطاب الألماني أن في غزة مليون إنسان، عندهم غزة هي حماس وهم ارهابيون إسلاميون، وهم يقفون هنا مع الدولة الصهيونية لأن الصراع هو نوع من العداء للسامية، وهنا يطورون شكلا جديدا من اشكال العنصرية في ألمانيا، شكل اسمه رُهاب الإسلام. يعلق نيلسون مانديلا أن المضطهِد (بكسر الهاء) وليس المضطهد (بفتح الهاء)، هو الذي يملي دائما الشكل الذي يتخذه الكفاح؛ فحين يستخدم الأول العنف لا يبقى أمام الثاني من خيار سوى الرد بعنف. وهكذا يمضى الكتاب في عرض أمين للحقائق، وربما لم أر أفضل منه في عرض الحروب الصهيونية على غزة منذ عام 2006.