ذكرى عهود!

أحسن الأديب الدكتور عبدالرحمن قائد عندما جمع أشلاء سيرة الأديب الكبير أحمد حسن الزيات، في (ذكرى عهود)، وهو يقدّمها لقراء الأدب في طبعة فاخرة عن دار آفاق المعرفة، بعد أن بذل جهدا مشكورا في لمّ شتاتها، وقام بترتيبها وبنائها على عهود العمر، وأتمّ تنسيقها في بناء محكم، وقدّم لها بمقدمة تكشف عن أبرز ملامح جهود هذا الأديب الكبير، وقد نهض بنبل لتحقيق أمنية الزيات التي ظل يتمناها نحو أربعة عقود منذ كتب مقاله الأول الذي اعتبره مقدّمة لذكرى عهوده وسيرته الذاتية، فجمع ذكرياته من كتبه المنشورة ومما لم ينشر من مقالاته المنثورة، حتى استوى كتابا مشرق الوجه مطهّم الخَلق، مليح القسمات، من أجمل ما أنت قارئ في أدب السيرة الذاتية البليغة المعاصرة، على حد ما جاء في وصف المحرر الذي قدّم خدمة جليلة لصاحب الرسالة ولقرائه وقراء الأدب بعامة، فالزيات من أبرز أدباء تلك الفترة التي صارت فيها مجلة الرسالة عنوانا للمرحلة ومرجعا مهما للنتاج الأدبي في عصر النهضة الأدبية.  وقد استمتعت بما كتبه الزيات عن القرية المصرية، وللزيات أسلوب رشيق قريب من أسلوب أحمد أمين إلا أنه يزيد عليه باحتفاله بالصور، وهي صور رائقة في موضعها من الكلام، لا تثقله ولا تتركه عاطلا من الحلية، في انسجام تام مع زينة القرية وتبرجها في جمالها الفطري. يذكر الزيات قصة حزينة له مع فتاة ريفية كان قد أحبها، فأصيبت بالمرض الذي دهم القرية آنذاك، فكان يحضر لها من الماء المغلي ويقطّره في فمها إلى أن لفظت أنفاسها على مرأى منه فعلقت تلك الحادثة الحزينة بذاكرته، وفي ذلك يقول:» لا أزال أذكر هذا المنظر المروّع وأتمثّله كأنه وقع أمس، ولا أزال أذكر أن تيّارا من الرعب قد اعتراني، فعقل يدي وعقد لساني، فخرجت من الحجرة هاربا بنفسي لا ألوي على شيء، ولا أخبرا أحدًا بشيء». ومثلها قصته مع صديقه الأثير الفقير الذي قضى معه يوم العيد وحلاوته وبهاءه في ود متصل، ويوم الموت، حيث  توفي صديقه بالمرض الذي هلك فيه كثير من أهل القرية، وفي ذلك يقول:»أبدا لن أنسى هذين اليومين من حياة صديقي الأول:,يوم قضيت معه العيد وهو يقاسي هم الوحشة، ويوم قضيت معه يوم الموت وهو يكابد ألم الوحدة». ويصف الزيات القرية المصرية بين فترتين  فترة الخصب،، يوم كان شهر أكتوبر من أجمل شهور القرية، «يفتّق لوز القطن في الحقول ويشقّق ورد الصبا في الخدود ويفتّح نوّار المنى في القلوب» وبين فترة الجدب بعد أن «تبدّلت القرية غير القرية، فلا ليلى تطمع في زينة، ولا أخوها يطمح في زواج، ولا أبوها يفكّر في حجّ، وأصبح الطريق الذاهب إلى المدينة يجيء بالمرابي والجابي والمُحْضِر، بعد أن كان يجيء بالشاعر والزامر والمغنّي، وغاضت بشاشة العيش في وجوه الشباب فعادت القرية جديبة كالقفر».  وفي الجملة فإن الزيات كتب القرية برشاقة الأديب الذي عاش في فضائها وشرب من مائها واستمتع بهوائها العليل؛ فكان قلمه في هذا السياق جسرا إلى عالم القرية الوادع وذاكرة لهذا المكان الحميم.