الفردوس العربي المفقود في إفريقيا.
لا أحد يستطيع أن يجزم ما هو أصل كلمة «زنجبار»، تلك الجزيرة التي تقع في المحيط الهندي قُبالة ساحل شرق وسط إفريقيا، ومن هو أول من أطلق هذا الاسم عليها، ولكن المصادر التاريخية تُجمِع على أن التُّجار العرب العُمانيين هُم أول من أطلق على ساحل إفريقيا الشرقي اسم «زين البَرّ»، من قبل أن يتوغّلوا في تلك الجزيرة، أو الداخل الإفريقي. لقد أعجبهم الساحل الأخضر، وهُم الآتون من سواحل صحراءٍ جرداء، فإذا بهم أمام برّ جميل وأرضٍ خصبة، وحُوّر هذا الاسم مع تعاقب الهِجرات، وتوالي موجات الاستعمار، واختلاط الأقوام بين الداخل الإفريقي والساحل العربي، وتطوُّر اللّغة السواحيلية ولهجاتها المختلفة، حتى أصبح «زنجبار». عُرفت «زنجبار» كأحد أبرز مُنتجي التوابل على مستوى العالم، والتي جُلبت بذورها منذ قرون مع التُّجار العرب من الهند وإندونيسيا، كما أدخل البرتغاليون الذين سيطروا على الجزيرة لفترةٍ في القرن السادس عشر أنواعاً من البُهارات، جلبوها من مُستعمراتهم في أمريكا الجنوبية. وبعد أن نقل السلطان «سعيد بن سلطان» عاصمته من «مسقط» إلى «زنجبار» في عام 1832، شجّع على الزراعة التجارية للقرنفل، والذي لم يكُن يُزرع في الجزيرة، وأسهَم ذلك بشكل كبير في تغيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية وزيادة ثروة البلاد، كما منحها المكانة واسمها الأسطوري «جزيرة القرنفل». لقد قام السلطان ببرنامج إصلاحي، طبّقه في شرق إفريقيا، فيما يتعلّق بالعُملة والرسوم الجمركية، وإنعاش تجارة القوافل، وشجّع قدوم الأجانب للتجارة، حتى أصبحت «زنجبار» أكبر ميناء على سواحل «المحيط الهندي»، وأكبر سوق للتوابل والعاج. وبنى السلطان أسطولاً بحرياً تجارياً لنقل البضائع بين الجزيرة و»مرسيليا» و»جِنوَة» و»لندن»، واهتمّ ببناء أسطول بحري عسكري، يُعدّ أقوى أسطول على طول الساحل المُمتد من «رأس الرجاء الصالح» إلى «اليابان»، وتحوّلت «زنجبار» من قرية صغيرة إلى ثالث دولة تجارية في المحيط الهندي. يقول الأستاذ «رياض نجيب الريّس» في كتابه «الجانب الآخر للتاريخ»، بعد أن زارها في نهاية التسعينيات: «فجأةً تُطوّقك زنجبار؛ المراكب الشراعية العربية الراسية في مرافئها، وكأنها وصلت اليوم أو أمس فقط، من «مسقط» أو «هُرمز» أو «البصرة» أو «شطّ العرب»، وهي تنتظر الإقلاع غداً. بلدة «الحجَر» القديمة Stone Town تُذكّرك بمدينة «مسقط» القديمة في أوائل السبعينيات، برغم أنها تعبق برائحة التوابل والبهارات. المؤذّن يرفع أذان الصلاة من مآذنٍ لجوامع لا تراها، ولمُصلّين وراء أبواب خشبية ضخمة مُطرّزة بالحفر ومُطعّمة بالنحاس، نقل العُمانيون فنّ نقوشها وصناعتها معهم، عندما بنوا عاصمتهم». كانت زنجبار في أوائل القرن السادس عشر تحت سيطرة الإمبراطورية البرتغالية، لمُدّة قرنين من الزمان، وبحلول أواخر القرن السابع عشر تمكّنت سلطنة «عُمان» من طرد البرتغاليين، وبدأ العصر الذهبي لحُكم «البوسعيديين، ولكن بعد وفاة السلطان «سعيد بن سلطان» سنة 1856، حصلت مُناوشات بين أبنائه على وراثة العرش، فتدخّل الإنجليز وقسّموا الدولة إلى سلطنتين: «عُمان» و»زنجبار». ومع نهاية القرن التاسع عشر، بدأت زنجبار تخسر أملاكها أمام القوى الاستعمارية العُظمى، وانتهى الأمر إلى احتلالها قِبل «بريطانيا» بعد معركة قصيرة في عام 1896، ولكن بعد استقلال الجزيرة عام 1963، وبتدبير ودعم من الإنجليز، قامت ثورة دموية في شهر يناير 1964 أنهت الحُكم العربي للجزيرة. تميّزت زنجبار في عصر ازدهارها، بعظَمة قصورها التي بناها السلاطين، ومن أهمّها القصر المُسمّى «بيت العجائب»، الذي بناه السلطان «برغش بن سعيد» في عام 1883. يقع القصر في قلب المدينة الحجرية، وسُمّي بهذا الاسم لأنه كان أول مبنى مُزوّداً بالكهرباء في شرق إفريقيا، وهو يلخّص التراث التاريخي للجزيرة؛ إذ ينقل مزيجاً من التأثيرات المعمارية البريطانية والبرتغالية والعربية والزنجبارية، والتي تمّ دمجها على مرّ القرون، ويُعدّ القصر حالياً من المعالم البارزة في زنجبار، والمُدرجة في قائمة «التراث العالمي لليونسكو» منذ عام 2000. كذلك قصر «متوني»، الذي بناه السلطان «سعيد بن سلطان» عام 1829، وكتبتْ عنه «سالمة» ابنة السلطان «سعيد» في كتابها الشهير «مُذكّرات أميرة عربية»، حيث وُلدت الأميرة في عام 1844 وعاشت طفولتها في هذا القصر، ووصفته في الخمسينيات من القرن التاسع عشر، وكان له ساحة كبيرة، كانت الغُزلان والطواويس والنعامات والبشروش «الفلامينجو» تتجوّل في أنحائها، وتروي «سالمة» أن أكثر من ألف شخص كانوا مُلحقين بحاشية والدها السلطان في القصر. وفي عام 1859 توفّي والدها، ونشب خلاف بين أخويها «برغش» و»ماجد» على انتزاع السُّلطة، وساعدت «سالمة» «برغش» على الهروب، بعد فشل محاولته الإطاحة بسُلطة «ماجد». وبانحياز «سالمة» إلى «برغش»، خسرتْ صداقة العديد من إخوتها وأخواتها المُتعاطفين مع «ماجد»، فعاشت مُنعزلة عن عائلتها حتى عام 1866، حين قرّرت الابتعاد وفرّت إلى «هامبورغ»، وتزوّجت من تاجر ألماني كان يعمل في زنجبار. وبعد خمس سنوات توفّي زوجها في حادث سير بعد أن رُزق الزوجان بابنتين وولد. عادت «سالمة» مع أولادها في عام 1885 إلى «زنجبار»، ولكن لم تُكلّل مُحاولتها إجراء المُصالحة مع عائلتها بالنجاح، فعادت إلى ألمانيا وعاشت هناك حتى توفّيت في عام 1924، وبين مُمتلكاتها التي وُجدتْ بعد وفاتها، كان هناك كيسٌ من رمال شاطيء «زنجبار».. كان السلطان «جمشيد بن عبدالله البوسعيدي» هو آخر سلاطين «زنجبار»، بعد أن أطاحته الثورة في عام 1964 ومنحته بريطانيا حقّ اللجوء السياسي، وأقام في إحدى ضواحي مدينة «بورتسماوث» في جنوب «إنجلترا». وكان من شروط خروجه حيّاً من «زنجبار» ألا يعود إليها مدى الحياة، ولكن بعد مرور السنوات الطوال وتغيّر الظروف السياسية، ينقل بعض المُقرّبين منه قوله: إنه لا يُريد العودة إلى «زنجبار»، لكنه سيعود إذا طلبت بلاده منه ذلك! أليس هذا ما يقوله كلّ الحُكّام والسلاطين المنفيّين؟