لا قصائد معتادة لموضوع الحب.
الحب.. ذلك الموضوع الأثير على النفس، والذي لا يتبدى لنا عند مقاربته، وفي استحضاره كل مرة، سوى إحدى صوره. جانب واحد منه فقط يتجلى لنا تبعاً لظروفنا النفسية والعاطفية. أشبه ما يكون بجبل جليدي تتبدل قمته الظاهرة لنا عند كل حالة استدعاء، بينما تبقى كامل كتلته متوارية. فهو الموضوع الأكثر عجائبية في مفهومه وممارسته، والأكثر طرافة حينما نمارس الغناء على نصوصه الشعرية؛ الناجحة في تجربتها، وكذلك المحبطة والفاشلة. فاللغة عند الظفر بالمحبوب واستجابته لنداء الحب، تكون في غالبها صوفية شاطحة؛ بتضخيم العواطف والآمال. أما التي تخفق في تجربتها بالوصول إلى النتيجة المنشودة؛ فتصبح متفلسفة، صادحة بالشكوى والعتاب. تصح عليها مقولة إميل سيوران: بأن «حباً يَخيبُ، لهو محنة فلسفية.. تمتلك من الثراء ما يتيح لها أن تصنع من حلاقٍ نظيراً لسقراط». نقبل منه المعنى ونقيضه بكل تسامح؛ فمهما غالى المحب في الرفع من رتبة الحب وجمال أثره على الروح، فنحن نقره على ذلك بكل أريحية. وبكل تسامح، نتقبل ما يناقض ذلك الرأي، وبما يكال له من التهم والهجاء باعتباره - أي الحب - وهماً خادعاً، والسبب الأهم بإخفاق البشرية نحو تكاملها عند الوقوع فيه. لن نجادل كل ذلك، فهو الموضوع الوحيد الذي تواطأت البشرية على إبقاءه مفتوحاً، وتقبل فيه جميع الأقوال. جدارية أزلية يكتب عليها الشعراء مشاعرهم عن الحب بما يشاءون، وبما يناقض بعضهم بعضاً. فلا شيء «مألوف بقدر الحب، ولا شيء غيره يضعنا في تلك الحيرة المطبقة»، كما تقول جانيت وينترسون. أسر الحب في شباك قصيدة: تحت عنوان “قَصيدَةٌ مُعتادةَ لموضوع الحُب”، كتب الشاعر المجري المعاصر “أندروش باتوتس” قصيدته التي استعارت المقالة جزءا من عنوانها، والتي أرد بها وقف جريان نهر الشعر واندفاعه نحو موضوعه الأثير، أي الحب. فإن ينزع من القصيدة ثيمتها الجاذبة ويجعل موضوعها مسيراً على قضبان الرتابة والعادة والتنميط، فهو موقف قد لا نقره عليه. ذلك، أشبه بمحاولة إسدال الستارة على مسرحية؛ بدأت حكايتها مع إنساننا الأول، بينما لم تزل فصولها مستمرة.. بتعاقب الليل والنهار. فإذا كان رولان بارت قد أعلن سابقاً عن موت “المؤلف”، فأندروش الشاعر يسعى بقصيدته هذه إلى نعي الحب كـ “موضوع”!؟ أي الحكم على الحب بانتهاء فاعليته، لعجزه عن تحقيق غايته في إسعاد البشر، والقول بـ “موت الحب”. فالشاعر المحبط، يصوره وهماً وسراباً تقع العواطف في حبائله، بينما نتيجته النهائية تكون عذاباً وإيذاء للقلوب، ولا يستحق كل تلك المعاناة، فدائماً ما يخلف الحب توقعاتنا: «هؤلاء اللائي أحببناهن مُتنَ الوجوه من خلف الأيدي سقطت الشيلان خجلى... متوارية في حياء، هؤلاء اللائي نُحبُهنّ... تزوجن». ما نلاحظه، هو أن الشاعر لا يخفي نزعته الذكورية بتوجيه سهامه إلى المرأة بتحميلها نتيجة إخفاق عملية الحب وتعثرها، وأن ذلك البتر في العلاقة يكون في العادة بقرار نابع من المرأة، وبسبب من تغليبها لمصالح مادية مقابل استحقاقات الروح برؤاها المثالية. وأيضاً، أراد اختزال الحب الحقيقي في الجانب الذكوري، وأن عواطف الحب الأصيلة هي في واقعها خصيصة ذكورية لا تجري على مشاعر النساء. وما يغيظه أيضاً، هو سهولة مسحهن لذاكرتهن عن كل تجربة سابقة للحب، وكأنها حكاية لم تحدث قط: «هؤلاء اللائي أحببناهن... مشغولات في المطبخ، هؤلاء اللائي أحببناهن... يحملن أطفالاً». من جانب آخر، وبعدما يعلي الشاعر من عواطفه اتجاه الحب كبداية، يقرر تالياً أن حالة العشق مؤقتة وتذهب بمجرد تخلي المعشوق عن مشاعره. أي أنه لا يوجد حباً من طرف واحد: «لقد انتظرتكِ في سكينة دون ألمٍ... وظهري إلى جانب الممر، حيثما يقعقع القطارُ. وأنتِ تعانقين بيديكِ يديَّ كان الخجل يغط في النوم، والأغاني أيضاً. هؤلاء اللائي أحببناهن... كُنَّ... مائتاتٍ... أيضاً». الشاعر سعد بن جعيثن، من جهته، يتواطأ مع شاعرنا المجري، ويقره على صفة برودة عواطف النساء اتجاه الحب. ففي “سامريته” التالية، يتحدث عن مدى انفعاله بالحب وعن موقف من تقابله في الطرف الآخر من العملية العشقية. وكذلك يتوافق مع أندروش في رأيه بأن حالة الحب ممكن الشفاء منها؛ وإن كانت عند بن جعيثن من خلال تدخل قوى ميتافيزيقية: غيبية: يا سلام ويا سلام الله يا حمام جر الألحاني صابني من بد خلق الله صابني مير الله اذراني من يعين ومن يخاف الله صابني سحاب الأرداني والنهاية التي وصل إليها شاعرنا شبيهة بما قاله الشاعر المجري أندروش، مع اختلاف مظهر برودة المشاعر. فلدى الشاعر المجري انتهت العلاقة بزواج حبيبته من آخر وانشغالها عنه كردة فعل لا مبالية. أما في حالة شاعرنا، فمظهر اللامبالاة انكشف بتجاهل محبوبته عند تحيته إياها، حيث لم تبادله التحية، وغيرت مجرى الحديث باستفسارها عن رجل آخر؛ كلون من التعريض والإشارة بأنه بديله في العشق: قلت له ترى السلام لله ماهوب حقٍ منك خسراني قال لي ما شفت عبد الله قلت ما شفته ولا جاني يا سلام ويا سلام الله يا حمام جر الألحاني وتبعاً لمقولة الكاتب الروماني إيلي فيزيل، فعدم المبالاة هي «نقيض الحب وليس الكراهية». مرافعة أنثوية بحجم الحب: الشاعرة العربية في الزمن “الجاهلي” أم الضحاك المحاربية، تدحض جميع ظنون واتهامات الشاعرين؛ البلغاري والسعودي. فهي تبرز عنف مشاعرها وتأزم عواطفها، وتدعي أن الأنثى في حالة الحب، هي الأكثر تأثراً وانفعالاً: ما عالج الناس من وجد تضمنهم إلا ووجدي به فوق الذي وجدوا تدعم مرافعتها بما هو واقعا في روحها، وما تعانيه من ألم. فقد بلغ بها العشق مبلغاً احتارت معه عائلتها في تطبيبه؛ معاناة لا فكاك منها، ومرض عضال لا شفاء له: ولو أنَّ اهلي يعلمون تميمةً من الحب تشفي قَلّدوني التمائما وبالنقيض من ادعاء الشاعرين، الشاعرة هنا تزيل الفوارق في العواطف بين الجنسين. فهي ترى أن الحب حالة بشرية كونية متجاوزة لأي تصنيف جندري. فالإصابة بالعشق متاحة لكل ذي قلب: أرى الحب لا يفني ولم يُفنهِ الأُولى أحينوا وقد كانوا على سالفِ الدهرِ وكلهم قد خالهُ في فؤادِهِ بأجمعه يحكون ذلكَ في الشعرِ سلوك الحب.. شريعة المحبين: أخيراً، لنا أن نرى في موضوع الحب بأنه اختيار بين نماذج متعددة. فلنا أن تقبل إحداها، لكن ليس علينا أن ندين بقية نماذجه. فليس هناك دستورا أو شرعة واحدة للحب؛ على الرغم من محاولات بعض الشعراء تعميم حالاتهم الخاصة؛ كقول الكيذاوي الشاعر: شَرَعَ الحبُّ لَهُ ما شَرَعا فَبَكى خوفَ النوى واِفتَجعا إنما قد نتواطأ برضى مع شاعرنا الشعبي عند تعويمه للمعنى ومشاكسته له: الحب سنّه والحبايب شريعة والخل في شرع المحبين دلّوع فحكايا الحب وأشعاره، نعدها بمثابة نتاج لتجارب كثيرة بعدد (أنفاس الخلائق). نتذوق - نحن جمهور الشعر - ما هو قريب من حالاتنا العاطفة، وبما يسكن انفعالاتنا، وقد ننتقل من الضد إلى الضد في المعنى عند تغنينا بقصائد الشعراء من دون أي شعور بالحرج.. فتلك هي “دراما الحب”.