نرى وعبر منصات التواصل الاجتماعي دعوة إلى المساهمة في عتق رقبة، لكن حين تقع عينيك على مبلغ الديّة لا تملك إلا أن تصفق كفًا بكف، وتتساءل ما الذي أوصل مبلغ الديّات إلى هذا الحد المجنون، وعلى أي أساس أقرّه أهل المقتول، وقبِله أهل القاتل، وما الذي يعنيه تهافت مصلحين ما بين ذوي القتيل والمقتول وبمعية تجمع قبلي ملفت، وكأن الجمع في محفل!! اسئلة تدور في فلك المخيلة حول هذه الظاهرة التي للأسف استشرت وانتشرت، الأمر الذي استنفرت به مجلة اليمامة أخصائيين اجتماعيين وكُتاب ومثقفين وشرعيين ليدلوا بآرائهم، حول الأسباب والظروف التي ساهمت في ذلك، وتعليقاتهم من يرى أن المساهمة في مثل هذه المبالغ تؤدي إلى التساهل في القتل، لعلم القاتل أن هناك من سيدفع الديّة عنه، وماذا لو كانت الديّة فقط للقتل العمد، ولا تدخل نطاق القتل غير العمد، وإن كان هناك من حلول وطرق العلاج لهذه الظاهرة. اختلاط حُسن النيات بالنخوة العصبية تساءل الكاتب الدكتور جاسر الحربش: هل يسقط حق المجتمع العام في الحماية من احتمال تكرار القاتل العمد لفعلته في آخرين بعد إطلاق سراحه، وما لأصل الشرعي الذي صدر بموجبه الحكم بالقصاص إن كان سبب انتفاء مبرر القتل دفاعًا عن النفس، أو العرض، أو الدين، أو المال، وأن القتل كان مقصودًا غير مبرر يمكن تفاديه؟ وتابع «عندما يكون للقاتل العمد افتراض تغطية ائتمانية تكفي لجمع الملايين لافتدائه، ما هو وضع القاتل العبد الفقير الذي ليس له من هذه الملاءات ما يتغطى به، والذي قد يكون وحيد والديه، عندما يكون أهل القتيل أضعف وأفقر اجتماعيًا من المجموعات المتنادية لافتداء القاتل، من الذي يضمن عدم تعرضهم في الخفاء للتهديد أو استغلال حاجاتهم المادية للإغراء المادي، بينما تنتفي هذه الاحتمالات عندما يكون أهل القتيل من ذوي المنعة والغنى بما يحميهم من التهديد والإغراء المادي؟». وعدّ الحربش هذه الظاهرة ممن يختلط فيها حسن النيات بالنخوة العصبية «وبما يشبه صك كفالة ضد تنفيذ الحكم الشرعي، وكأن من المباح أن يوحى لمن نوى نية القتل لا عليك اطمئن اذبح الرجل ونحن نتكفل لك بالديّة» مبديًا توقعه أن هذه الظاهرة لا توجد في أي مجتمع آخر إسلامي كان أو مسيحيً أو يهوديً «هي موجودة فقط في قطاع من المجتمع السعودي الذي ما زال يحمل بعض الإرث القبلي التفاضلي بحسناته ومساوئه، وترك الموضوع هكذا للناس بدون تأطير شرعي يبيح أو يمنع، يكرِّه أو يحبب، يفسح أو يغلق». ما نراه اليوم لا يُسمى عتق رقبة نبّه الكاتب خالد العضاض أن ما نراه اليوم لا يُسمى عتق رقبة، كما تعارف عليه الناس، «بل يسمى تصالح لدرء القصاص، ولا يعتبر عفوًا لوجه الله، فمن قبِل الديّة الشرعية، أو مبلغًا أكبر منها لإتمام الصلح فهو في الحقيقة قد تنازل عن حقه في إنفاذ القصاص بمقابل» مبينًا أن المساهمة في هذه المزادات على الدماء يؤدي إلى مخاطر من أهمها «التساهل في القتل وإزهاق الأرواح البريئة، وفقًا لسهولة توفير المقابل المادي للتنازل، إضافة إلى أن الأموال المقدمة للتنازل ستكون معيارًا لقيمة الأشخاص والقبائل، الأمر الذي سيقود إلى عقد المقارنات، مما يعني المزيد من المبالغات وتضخيم أرقام مبالغ التنازلات، غير متناسين نشوء العداوة ونبذ المعروف بين الناس وإذكاء الفتن في المجتمع. وأوضح العضاض أن الأصل في القتل العمد القصاص وإقامة الحد لما فيه من حفظ للمجتمع في أمنه واستقراره، ولولي الدم في القتل العمد خيارات كفلها له الشرع «فإما إنفاذ القِصاص، أو العفو لوجه الله تعالى دون مقابل، أو أن يرضى بالدية الشرعية، وهي دية مغلظة في حال القتل العمد وشبه العمد، وأن تكون في مال الجاني خاصة دون العاقلة أي القبيلة، وأن تكون في ثلاث أنواع من الإبل لا خمسة، وتعادل قيمتها اليوم بحسب قرار الهيئة العامة للمحكمة العليا في 1432ه، أربعمئة ألف ريال سعودي». وتابع «ولولي الدم كذلك اختيار الصلح أو ما يعرف بشراء الرقبة، وذلك حينما يقبل درء الحد عن الجاني بالتنازل مقابل أكثر من الديّة الشرعية، ولا يعني القبول بالصلح والتنازل أن يتجاوز المقابل المادي حد المعقول عرفًا، إلى المغالاة والتعجيز». واستبعد العضاض إقرار الدية في القتل غير العمد دون القتل العمد لمخالفته للشريعة «فالديّة ثابتة في القتل الخطأ، وهي أحد الخيارات الثلاثة لولي الدم في القتل العمد وشبه العمد، وهي القصاص، أو الديّة الشرعية المغلظة، أو العفو، أو اللجوء لخيار مختلف غير الثلاثة، وهو التصالح على مبلغ يزيد عن الديّة، كما أقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أصح الأقوال. ومن وجهة نظر العضاض يكمن العلاج في تطبيق الشرع الحنيف بالقصاص، أو العفو لوجه لله تعالى، ومنع عمل المتاجرين بالدم من الوسطاء، وإجراء عمليات الصلح عبر الجهات الرسمية بلا مقابل، مع حظر أي مناشدات أو إعلانات بأي سبيل كان لتغطية مبالغ شراء الرقاب والدماء، وقيام مراكز الدراسات في الجامعات، بدراسة الظاهرة، وتقديم الحلول على مختلف المستويات». خروج الديّات عن دورها الاجتماعي أرجعت الإخصائية الاجتماعية والكاتبة تغريد الطاسان ظاهرة انتشار الديّات إلى تفاعل معقد بين العوامل الثقافية، الاقتصادية، القانونية، والاجتماعية في المجتمعات التي تعتمد بشكل كبير على التقاليد العرفية والقبلية «وقد يكون للديّات دور مهم في الحفاظ على السلام الاجتماعي، لكن ونظير ما صاحبها من ممارسات، قد تؤدي إلى تساهل في تطبيق العدالة الجنائية، إذا لم تُدار بشكل صحيح». وربطت الطاسان الظاهرة - سواء في القتل العمد أو غير العمد- بأسباب عدة من ظروف اجتماعية واقتصادية وقانونية «فالعديد من المجتمعات، تُعتبر الديّة جزءًا من التقاليد القديمة، و يُنظر إليها كوسيلة لحل النزاعات وحفظ السلام بين العائلات أو القبائل، وهذه التقاليد تستند إلى قيم الشرف والكرامة، وقد استمر تأثيرها في المجتمعات حتى مع تطور الأنظمة القانونية الحديثة، وفي بعض المجتمعات تُستخدم الديّة كبديل للثأر». وزادت «كون المجتمعات التي تشهد تفاوتًا اقتصاديًا كبيرًا، قد تُستخدم الديّة كوسيلة لإنهاء النزاعات بين الأفراد أو العائلات ذات الإمكانيات المادية المختلفة، ففي بعض الحالات، يمكن أن يكون الشخص المتهم أو عائلته قادرين على دفع الدية، مما يجعل هذه الوسيلة جذابة لتجنب العقوبات الأكثر صرامة». أما نقطة من يرى أن المساهمة في مثل هذه المبالغ تؤدي إلى التساهل في القتل، لعلم القاتل أن هناك من سيدفع الديّة عنه، قالت الطاسان: «نقطة تثير نقاشًا حساسًا ومعقدًا حول دور الديّة والاعتماد عليها كجزء من نظام العدالة، فمن جهة يُنظر إلى الديّة كوسيلة لحل النزاعات بشكل سلمي وتجنب الانتقام، لكنها من جهة أخرى قد تثير مخاوف بشأن التساهل في القتل أو استخدام العنف». وتابعت «من المهم أن يكون هناك توازن بين تطبيق الديّة كجزء من القانون، وبين ضمان ألا يُساء استخدامها أو استغلالها لتبرير الجرائم، مُعززًا نظامها بمزيد من الإجراءات الصارمة التي تضمن محاسبة الجناة بشكل عادل، كتعزيز الوعي القانوني، وتطبيق عقوبات إضافية على الجناة في حال تكرار الجريمة، وكوني اخصائية اجتماعية، أرى أن هذا الأمر يحتاج إلى نقاش مجتمعي موسع لضمان تحقيق العدالة والحفاظ على الأمن، مع الحفاظ على القيم الاجتماعية والدينية التي تدعم نظام الدية في بعض المجتمعات». وأوصت الطاسان بوجوب تقنين واستخدام الديّة بشكل انتقائي، وتطبيقها فقط في حالات القتل غير العمد، بينما يجب أن يواجه مرتكبو القتل العمد عقوبات صارمة لا تتضمن فقط دفع الديّة، ووضع قوانين تحُد من إمكانية دفع الديّة بمبالغ طائلة». وزادت « كذلك تنظيم حملات توعية لتوضيح خطورة التساهل في الجرائم، وتعزيز فهم المجتمع لأهمية تطبيق العدالة وتثقيف الجمهور حول أهمية القانون في تحقيق العدالة وحماية المجتمع، مما يمكن أن يقلل من الاعتماد على الديّة كحل وحيد للنزاعات،وختمت الطاسان باقتراح «إنشاء صندوق مالي لدعم أسر ضحايا القتل غير العمد، مما يُقلّل من الضغط المالي على الأسر المتورطة ويساعد في تحقيق العدالة دون اللجوء للتساهل، كما أن البحث عن أساليب تصالحية بديلة يمكن أن تساعد في تحقيق العدالة بشكل إنساني ومتوازن، مثل العمل المجتمعي أو برامج إعادة التأهيل» مشيرة إلى وجوب تطوير القوانين لضمان أن الجرائم العمدية تعاقب بعقوبات تتناسب مع خطورتها، وأنه لا يمكن التهرب من هذه العقوبات بالدفع المالي. ضرورة منع هذا السلوك دعا رئيس مركز تعارفوا للإرشاد الأسري والمستشار الأمني السابق في مكتب وزير الداخلية الدكتور سعود بن صالح المصيبيح إلى منع مثل هذا السلوك منعًا باتًا «بحيث يُترك الأمر لذوي المقتول، إن أرادوا العفو أو طلب الدية التي يرغبون أو القصاص، مع بقاء القاتل في السجن حتى توفر المبلغ دون دعم أو مساعدة من أحد، وهذا سيكون بمثابة رادع للبقية». ووصف المصيبيح ما يرتبط بالحدث بالسلوك السيء جدًا «لما فيها من المبالغة، وتعطيل للشرع الذي وجّه بالقصاص، كونه رادع وعبرة لأولي الألباب، ومانعًا لتهاون الناس إذا عرف القاتل ان جماعته سيقفون معه، مما تزداد حوادث القتل والتهور والتساهل في الأمر، أما في حال حكم القاضي أن القتل غير متعمد فيستوجب هنا المساعدة». ويرى المصيبيح «أن التوعية في أهمية حل المشكلات بالطرق السلمية، وعدم تمجيد القاتل والتهوين من عمله، وعدم الوقوف في صفه جزء من الحل والعلاج لهذه الظاهرة «بل ينبغي تنفيذ حكم الشرع بالقتل فيمن أقدم على قتل وبالتالي ستقل الظاهرة حتى تتلاشى». وقال: «هناك ظروف أسهمت القتل وجب الابتعاد عنها كالغضب والحماقة والجهل وعدم تقدير الأمور والتأجيج والشحن العاطفي والتوتر والضيق والتهور والافتقاد للحكمة والاتزان والخلافات المادية، والأسرية، والاجتماعية والانتقام». دخول الوسطاء فاقم الظاهرة قال الكاتب أحمد حلبي «ما وصلت إليه الديّة حاليًا، يتنافى ورأي الفقهاء الذين أجمعوا على أن الإبل أصلٌ في الديَّةِ، وأما ما ثبت في تقدير الديّة بغير ذلك فإنما هو مبنيٌّ على تقويمها بالإبل، ويجوز أخذ الديّة من غير الإبل بما يناسب كل مكان على حدة، بشرط أن تكون هذه الدِّيَة مقدرة بقيمة الإبل، وشرع الله تعالى الدية زجرًا للناس لكي يحافظوا على حياة الإنسان، والديّة لها أحكام شرعية ينبغي على المسلم معرفتها». وتمنى حلبي «أن يتولى مجلس الشورى دراسة وضع تنظيم خاص للديّات تحدد فيه قيمة الديّة للقتل الخطأ، وديّة القتل العمد، وديّة الحوادث، ويكون تحديد الديّة مرتبط بحالة القاتل والمقتول أثناء وقوع الجريمة وسنهم، وأن تحال قضايا الديّات في القتل للجنة إصلاح ذات البين بإمارات المناطق لدراستها، والعمل على وضع حلول لها، وسن عقوبات بحق المتاجرين بالدم سواء كانوا من الوسطاء أو أهل الدم». وأضاف «وأن تتضمن الحلول توفير حياة كريمة لأسرة القتيل وأبنائه حتى يكبروا، من خلال صندوق خاص بالديّات توضع به نسبة 60 ــ 70 % من الديّة، وتشرف عليه وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وتكون عملية صرف مستحقات الورثة شهريًا وفقا لما هو متبع بنظام التأمينات الاجتماعية بما يؤمن حياة كريمة لأبناء القتيل». وبيّن حلبي أن دخول بعض الوسطاء من خارج أبناء قبيلتي القاتل والمقتول، والذين يوهمون أطراف القضية بإن تدخلهم إنما جاء تدخلًا خيريًا يستهدف العمل على حل المشكلة، والوصول إلى حل يرضي الطرفين، فيما يكون هدفهم المبطن هو الخروج بنسبة مئوية من الدية المسلّمة لأهل القتيل، ويلاحظ على هؤلاء حرصهم على زيادة الدية لتزيد نسبتهم، وما يزيد في استمرار هؤلاء الوسطاء رضا أفراد قبيلتي القاتل والمقتول بهم» مؤملًا أن يكون دور القبيلة أكثر حكمة من خلال إبعاد هؤلاء الوسطاء المعروفين بتجار الدم، والاستعانة بالحكماء والخبراء من أبناء القبيلتين، ولا يمنع أن يستعان بحكماء القبائل الأخرى لإنهاء الأزمة». واتفق حلبي مع من يرى المساهمة في مثل هذه المبالغ تؤدي إلى التساهل في القتل، لعلم القاتل أن هناك من سيدفع الدية عنه «خاصة إذا كان القاتل منتميًا لقبيلة أفرادها من الأثرياء، وصندوق تكافلهم قويًا ماليًا، فيرى القاتل أن القصاص لن يصله طالما أن هناك وساطات من أفراد قبيلته، وأن أهل الدم سيحصلون في النهاية على الدية التي يرغبونها، وستتكفل قبيلته بدفعها دون أن يتأثر هو بشيء سوى تسجيل سابقة جنائية عليه، وقد يسعى لتكرار الحادثة، وحينها يتحول من قاتل بالخطأ لقاتل بالعمد، دون النظر للنتائج التي سيخلفها عمله هذا لأسرة القتيل وأبنائه، والمعاناة التي سيعيشونها بغياب الظل الذي كانوا يستظلون تحته ، وقد يكون تغليظ العقوبة بحق القاتل حتى وإن دفعت الدية هي الحل لعدم تكرار الحادثة. الديّة محددة شرعّا ولا تقبل الزيادة ويرى عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والقانون في جامعة حائل الدكتور خلف حمود الشغدلي لا سبيل للحد من هذه المغالاة في الأموال للصلح والتنازل إلّا بالتوعية الإسلامية، والحث على العفو لوجه الله، أو الصلح على أموال لا تُحرج الناس ولو إلى عشر ديّات من ديات القتل شبه العمد، أما الإلزام فلا سبيل إليه فيما أعلم. وأوضح «ومعلوم عند الفقهاء أنّ في القتل العمد لصاحب الحق أن يطلب المصالحة بأكثر من الديّة ليتنازل عن القصاص، فهذا المبلغ الزائد عن الديّة هو في مقابل إسقاط حقه في القصاص، لا على أنه ديّة واجبة، فالديّة كما ذكرت محددة شرعًا ولا يمكن الزيادة عليها». وأفاد «الحرج الذي يقع فيه أهل القتيل من الوساطات وثقل بعض الشفاعات قد يكون سببًا في وصول الديات إلى مبالغ طائلة، التي يتعمدها أهل القتيل بقصد التعجيز، وقد يكون لأسباب دنيوية بحتة، أو للتفاخر بين الآخرين وغير ذلك والله أعلم، ولو تعارف الناس ومشايخ القبائل على حد أقصى للصلح في قضايا الدماء والقتل العمد لا يزاد عليه من غير إلزام ولا إحراج لأولياء المقتول فهذا أمر محمود». وحول إن كانت الديّة فقط للقتل غير العمد ، ولا تدخل في نطاق القتل العمد، وصف الشغدلي الأمر بالصعب جدًا، مستندًا إلى قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) مؤيدًا نوعًا ما جزئية أن المساهمة في مثل هذه المبالغ قد تؤدي إلى التساهل في القتل، لعلم القاتل أن هناك من سيدفع الدية عنه. ونوّه الشغدلي بما صدر عن هيئة كبار العلماء في السعودية بالأكثرية في قرارها رقم (204) بتاريخ 10/5/1422هـ عن مطالبة أولياء المقتول عمدًا بأكثر من الدية «إن الأصل جواز الصلح ، وعدم تحديده بحد معين، ما لم يشتمل الصلح على إحلال حرام، أو تحريم حلال، ولم يظهر للمجلس ما يقتضي العدول عن هذا الأصل» معتبِرًا دور القبيلة وشيخ القبيلة بالمهم في الحد من هذه الجرائم قبل وقوعها، و نشر قيم التسامح والرحمة والصبر والحلم وعدم الدخول في أي صدامات وصراعات، والبعد عن الفخر والكبر على الناس، والبعد عن كل ما من شأنه زرع الفرقة والشر بين الناس. دور امارات المناطق محوري ومهم بيّن أستاذ علم التغير الاجتماعي والثقافي بجامعة الامام محمد بن سعود الدكتور عبد العزيز الغريب أن دور امارات المناطق محوري وهام في ضبط هذا السلوك، وتوجيهه الوجه الصحيحة «لان مثل هذه السلوكيات تستسهل الدماء والقتل دون ادراك، ومثل هذه الديّات قد تشجع على ارتكاب جرائم القتل والحصول على مبالغ طائلة، مما يجعل المجتمع السعودي في حاجة الى الحزم سواء بعدم وجود أفراد يموّلون الديّات أو يكونون شركاء في جمعها، أو تقريب وجهات النظر حول مبالغها دون تشكيك في نوايا البعض أمام من يستغل هذا الموضوع للفائدة التي أصبحت أشبه بتوزيع التركات، فتحديد من يستحق الدية امر مطلوب». وأضاف « المجتمع السعودي مجتمع شاب، ولدينا رؤية حكومية، ومثل هذه السلوكيات قد تُحرج الدولة وتشوّه سمعتها، وكأن هناك متاجرة بالبشر، فالموضوع شائك وكبير وله جوانبه الدينية والثقافية، واصبح له الان جوانبه الاقتصادية». ووصى الغريب بإقرار برنامج توعوي توجيهي «يكون له تشريعه وقوانينه المنظمة للديات ومن يستحقها، والتفريق بين جرائم القتل حتى لو أنها جرائم يستسهلها البعض» مبديًا اعتقاده أن هناك محددات اجتماعية جعلت من هذه القضية إشكالية مع المجتمع السعودي وهي القبيلة والاعتزاز بها والعِرق وما شابه ذلك «مما جعل الديّة تصل إلى حالة غير معقولة وغير مقبولة، لاسيما والمجتمع السعودي عُرف بمحافظته الدينية وأعرافه وقيمه، وانعكاس ذلك على ما يمكن اسميه اقتصاد الدية، وخروج أناس يستفيدون من هذه القضايا والأزمات وآخرون من خلف الكواليس، وإدارة موضوع الديات، وكما نسمع يأخذون نسبّا وخلافه». حق أهل القتيل طلب الزيادة الأصل جواز المطالبة بالزيادة في الديّة وهو رأي أكثر أهل العلم، هذا ما أفاد به إمام وخطيب جامع ال عتيق بمحافظة حوطة بني تميم الشيخ علي الحجي، مستندًا على قول لابن قدامة رحمه الله: ومن له القصاص فله أن يصالح عنه بأكثر من الديّة وبقدرها وأقل منها لا نعلم فيه خلافًا، بمعنى أن لأهل القتيل أن يطالبوا بالزيادة، ولكن دون مبالغةً فيها، وألا يكون أكثر من المعقول». وفيما يخص ظاهرة المبالغة في الديّات فتعود في نظر الحجي إلى أسباب عدة أوجزها في «وجود سماسرة يبحثون عن التكسب من وراء ذلك، مع مطالبتهم بزيادة قيمة مبلغ الديّة من قبل أهل القتيل، إضافة إلى التفاخر والتكاثر في صفوف بعض القبائل، والمباهاة في جمع الأموال ولو كثرت، وكذلك محاولة تعجيز أهل القاتل لتنفيذ بالقصاص. وأضاف «من الأمور السلبية الواضحة في مسألة جمع الأموال طلبًا للصلح لأهل المقتول أنها أصبحت سببًا للتساهل في قضية القتل، والجرأة على الدماء لعلم القاتل أن هناك من يقف خلفه من أهله وعموم قبيلته». وعدّد الحجي حلولًا وسبل علاج لمثل هذه الظاهرة منها: تعظيم الشريعة في النفوس وبيان مقاصدها السامية، وإقامة الندوات في بيان تعظيم شأن الدماء وحرمة النفوس المعصومة، وأن يعرف الناس عامة وخاصة الشباب منهم أحكام الشرع في مثل هذه القضايا وأنظمة الدولة وقوانينها الواضحة، وأن تكون هناك لجان ومنظمات تشرف على العمل لمثل هذه القضايا إذا وقعت مع وجود آلية واضح، وصدور قانون من قبل الجهات المختصة والمعنية لضبط مثل هذه القضايا وإيجاد آلية للعمل عليها، مستنكرًا ما وصلت إليه الدية من مبالغ خيالية «واضحت فوق المعقول وخلاف العرف فأصبح متاجرة بدم القتيل مع إرهاق شديد لأهل القاتل. وجوب معرفة خبايا القتل بدورها تدعو الدكتورة وضحى الشمري إلى دراسة التأريخ النفسي والسلوكي للقاتل والمقتول، بعد التعاون مع أكثر من جهة لمعرفة الخبايا الدقيقة التي أدت إلى ساعة القتل «لعلها تساعد على اتخاذ القرار السليم بالسماح لدية الصلح، أو التنازل أو المنع منها، مع وجوب تقنين المبلغ المحدد للدية بمقدار يكبح جماح الرغبات والأهواء» مبينة أن بعض ضعيفي الإيمان اتخذوا موضوع الدية تكوينًا يسمح لهم بتمرير أهوائهم وجشعهم المادي. وأشارت الشمري إلى دور القبيلة التي بدت وكأنها تعامل القاتل معاملة المجنون أو الشخص المغلوب على أمره، مما هيأت للبعض مجالًا للتأويل والسماح في جواز جمع الدية «فلا عجب أن نجد بعض الديات تُجمع لقاتل متجبر في الأرض مُفسد فيها ووقوعه في حالة طيش، أو تحت تأثير المسكر، أو أي سبب آخر يبيح له فعل جريمته، فتبذل القبيلة جهدها لتُنجيه من تحمل فعلته، وتُحييه وحينها من أحياه فقد قتل الناس جميعًا، مما أوصل الديات الى مبالغ خيالية جردتها من معناها الذي وُجدت من أجله». وزادت «كثيرًا ما نسمع من القبيلة الآية الكريمة: (فمن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) وهو استخدام للآية الكريمة في موضع غير موضعها، وهذا مخالف للشرع الإسلامي، قال تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) وحديثي هنا لا يمس القتل الخطأ الذي بينته الآية الكريمة (ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبة مؤمنة، أودية مُسلمة إلى أهله). أما الناشط الاجتماعي حسن مخافة فيرى أن قضايا القتل نتيجة المخدرات والمسكرات وبفعل العصبيات والمنازعات القبلية والنعرات الجاهلية فلا يجب التدخل فيها، وأن يُنفذ حكم الشرع بكل حزم وحيادية «فما نراه من التجمعات القبلية والمجاهرة والمفاخرة بجمع الديات لإنقاذ قاتل من حكم الله هو في حقيقته متاجرة بالدماء ومفاخرات قبلية يجب أن تزول في ظل الدولة المدنية» داعيًا ولاة الأمر إلى وضع حد لتلك الممارسات الجاهلية ومنع المتاجرة بالدماء، وفرض تطبيق حكم الله ليكون للقصاص حياة لأولي الألباب. وقال « الله سبحانه هو من خلق كل شيء وهو الأعلم بمصلحة عباده، قال جل شأنه (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) فإن علم القاتل أنه سيقتل لامحالة فسيتورع ولن يتسرع في ارتكاب جريمة القتل. وأضاف «لم يتدخل البشر في أي أمر إلاهي إلاّ ودفعوا الثمن غاليًا من أمنهم وأمانهم، فتعطيل الأوامر الإلهية أو التساهل في تطبيقها سيجر المجتمع لويلات وفوضى لن تتمكن أي جهة من السيطرة عليها، لذلك أرى تطبيق حدود الله في كل أمورنا الحياتية وعدم التدخل في قضايا القتل بأي حال من الأحوال وترك البت في ذلك لشريعة الله، وعرض العفو في نطاق ضيق يتمثل في قتل الخطأ أو الدفاع عن النفس والمال والمحارم على أن تحدد الدولة الدية الشرعية ولا يسمح بتجاوزها».