ذَكَرتُ في الحلقة الماضية أن علاقة شخصية وأدبية وثيقة ربطت بين سعد البواردي والشيخ أحمد السباعي، المؤرخ والأديب وصاحب ورئيس تحرير جريدة «الندوة» آنذاك، حينما مثلا المملكة في المؤتمر الربع للأدباء العرب الذي عقد في الكويت خلال المدة 21-29 ديسمبر 1958 م، مع زميليهما الكاتب الكبير عبدالعزيز الرفاعي والأستاذ عبدالله شباط الذي كان صاحب ورئيس تحرير صحيفة «الخليج العربي» الأسبوعية التي كانت تصدر آنذاك في مدينة الدمام. وخلال تلك المشاركة في المؤتمر كان السباعي يصطحب معه نسخاً من بعض كتبه وأهدى عدداً منها للبواردي، ومن ضمنها كتابه: «فلسفة الجن» الصادر عام 1368 هـ- 1949 م-، ومجموعته القصصية «يوميات مجنـون» التــي صـدرت عام 1958 م. وأحمد السباعي الذي ولد عام 1323 هـ- الموافق 1905 م- من جيل الشيوخ آنذاك في مجال الصحافة والكتابة والإصدار الصحفي، إذ كان أحد كتاب صحيفة «صوت الحجاز»، ومجلة «المنهل» في خمسينيات القرن الهجري الماضي- الثلاثينات الميلادية-، وكان حينها إحدى الشخصيات البارزة في الساحة الثقافية السعودية وأحد أعمدة الصحافة السعودية، إذ أسس صحيفة «الندوة» عام 1958 م، التي كانت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع ورأس تحريرها، ثم بعد اندماجها مع صحيفة «حراء» التي كان يصدرها صالح محمد جمال- توقفت «حراء» وبقيت «الندوة» التي أصبحت تصدر يومياً وأصبحا شريكين فيها وذلك بعد شهر من عودة السباعي من مؤتمر الأدباء في الكويت. وانتهت هذه الشراكة بعد قرابة تسعة أشهر، حينما أسس السباعي صحيفة «قريش» في مكة المكرمة التي صدر عددها الأول في 1 جمادى الثانية 1379 هـ، الموافق 2 نوفمبر 1959 م، وأصبح سعد البواردي أحد كتابها، بالإضافة إلى استمراره في الكتابة في صحيفة «اليمامة» بشكل منتظم وكثيف. كان البواردي قد بدأ في اليمامة نشر سلسلة مقالات ضمن زاوية ثابتة في الصفحة الأولى تحت عنوان ثابت اختار له اسم «فلسفة المجانين»، وذلك ابتداءً من العدد 122، في 1 ذي القعدة 1377 هـ، الموافق 18 مايو 1958، وكان موضوعه «المزرعة الرهيبة»، بما يذكر بما يتعرض له الإنسان عندما يتحول إلى حقل تجارب في رواية «مزرعة الحيوان» للروائي البريطاني الشهير جورج أورويل، الصادرة عام 1945 م. وأتبعها بخمس حلقات نشر آخرها في العدد 127، الصادر في 5 ذي الحجة 1377 هـ، الموافق 23 يونيو 1958 م. ثم توقف. وبعد لقائه بأحمد السباعي في الكويت في مؤتمر الأدباء العرب في ديسمبر 1958 م، توثقت العلاقة الفكرية سريعاً بين السباعي- الشيخ- والبواردي- الشاب ذي الستة وعشرين عاما- وعندما أصدر السباعي صحيفة «قريش» كما ذُكر آنفاً-، خصصت للبواردي فيها زاوية غير منتظمة، اختار لها اسم «رسالة في قصة»، واستأنف فيها الكتابة عن أحوال العقل البشري، مسقطاً بعض تلك الحالات على نفسه-؛ ونشر أول حلقاتها في العدد العاشر، الصادر في 5 جمادى الثانية 1379 هـ، الموافق 4 يناير 1960 م، وعنوانها «والجنون فنون»، وأتبعها بحلقات في هذه الزاوية، كانت مواضيعها متعلقة بحالات عقول بشرية تعامل معها وحلل طرق تفكيرها وسلوكها كذلك، منها «عقول متحجرة»- عنوان مقاله في العدد 30- ومنها «كيف وجدت عقلي»، المنشور في العدد 33. استهل البواردي مقالته تلك بمخاطبة «ابنته» المتخيلة نازك- تيمنا باسم الشاعرة العراقية نازك الملائكة- قائلاً: «وجدته- أي عقله- يا نازك في زاوية مظلمة إلا من نور الأمل واليقين. وجدته تحت جدار هادئ يسنده عقل متحجر.. عقل لا يؤذي.. عقل يرسم عن وعي طريقه إلى حيث يتجه السالكون.. وجدته يا نازك مع الدعوة الحسنى.. مع الهمسة الرافقة الرحيمة التي تنصَّبُ على قلب أسود فتحيل سواده إلى بياض.. ونقمته إلى رحمة.. وجنونه إلى عقل... والآن يا نازك وأبوك في عامه الثامن والعشرين- يقصد نفسه-.. وهو يودع حلقة عمره الثالثة أو يكاد.. ماذا ترين في قصته إلا أنها حلقات متشابكة ملفقة بالسواد.. تحكي عقوقه وتحكي تلصصه.. وتحكي عجز مجتمعه الكبير عن إصلاح فرد يعيش في أحضانه.. ثم تحكي بعد ذلك عن اتهامنا لمقدرات العقل.. للأفكار الطليقة.. اتهامنا لها بأنها مرض يلزم له الدواء.. الاستئصال.. العلاج.. نعم.. العلاج بطعن تلك المقدرات.. بقتل الأفكار الطليقة السابحة في أجواء الفكرة..». تلك النظرة المتقاربة إلى طرائق تفكير الناس وحالات العقل البشري لدى السباعي والبواردي استرعت اهتمام الأديب والناقد الكبير عبدالله عبدالجبار- الذي كان يتابعها من خلال مقالاتهما في «قريش» و»اليمامة». وبلغ إعجابه- أو تعجبه- من تلك العلاقة حداً جعله يكتب مقالاً طويلاً بعنوان: «الكجَا بين البواردي والسباعي»، نشر في الصفحة السادسة في صحيفة «البلاد»، العدد 868، الصادر في 2 رجب 1381 هـ، الموافق 10 ديسمبر 1961 م. استهل عبدالجبار مقاله بالتقديم لشخصية سعد البواردي وتجربته في مجلة «الإشعاع» وإسهاماته في الصحف ومنها تحريره لباب في صحيفة اليمامة بعنوان: «مع الناس»، وتطرق إلى أسلوبه في الكتابة قائلاً إنه «أسلوب رشيق عذب يجمع مع الانسياب والتدفق حرارة الصدق والانفعال.. وفي بعض نتاجه جرأة محمودة يغلفها في كثير من الأحيان بضرب من الكناية والرمز». ثم يقول: «ومفتاح شخصيته الفنية في شعره ونثره على السواء هو التوتر، فكرة متوترة، وعاطفة متوترة، وعبارة متوترة. فالسمة الغالبة على نتاجه الفني أنه وتر مشدود». ثم ينتقل عبدالجبار في مقاله إلى شخصية «الكجا»، وصلة الكاتبين السباعي والبواردي بها، وهي شخصية شعبية بوهيمية متخيلة في مكة المكرمة، تطرق إليها عبدالجبار بإسهاب في السطور التالية: «والبواردي يشبه السباعي في معالجة مشاكلنا الحيوية، والاهتمام بقضايانا الاجتماعية.. وقد اتخذا من ذلك المخلوق الفكري العجيب الذي يسمى (الكجا) مشجباً يعلق عليه كل منهما أفكاره وخواطره... لقد كان (الكجا) المسكين بين يديهما (ذيل حمار) وركب كل منهما لذلك الذيل حماراً على مزاجه الخاص...» ويقول عن هذا «الكجا» إنه «جسم دقيق في وجهه سمرة الهنود وسحنتهم مع لحية مخنجرة يشذبها أو يرسلها أو يهملها حسب هواه.. الِفَ الناس رؤيته بشوارع مكة وهو يتبادل الحديث والنكات الجارحة مع الكبار والصغار، وأكثر ما انطبع في أذهانهم منه هو تلك البهلوانية العجيبة والكلمات التي لا معنى لها والتي يكررها عشرات المرات دون أن يخطئ مرة في ترتيبها. منظر مألوف في الستينيات والسبعينيات من القرن الرابع عشر الهجري بشوارع مكة، كلمات غريبة وحركات غريبة.. مشاهد صغيرة من مسرحية حياتنا الكبرى بطلها (الكجا) الضاحك العابث حتى لكأنه وجودي من طراز حجازي يجمع بين فلسفة السخرية وروح البهيمية الصارخة، وينفس بهذا الجنون العاقل أو العقل المجنوب شيئاً من كربات نفسه الكظيمة...» وبعد إسهاب في الحديث عن هذا الكجا يقول عبدالجبار «هذا هو الكجا الذي اتخذ منه السباعي والبواردي جسراً لنقد المجتمع وإبراز معايبه، ومتناقضاته العجيبة فكيف تصوره كل منهما؟» في بقية ذلك المقال الطويل إسهاب محمود وإطناب ممتع يقارن فيه عبدالجبار بين طريقتي الكاتبين اللذين جعلا تلك الشخصية «جسراً»- كما قال- لنقد نماذج من المجتمع وإبراز بعض معايبه. ويخلص عبدالجبار في حديثه عن البواردي إلى القول: «لقد أراد البواردي أن يتخذ من الكجا مثالاً كبيراً للمظلوم ومرآة ضخمة يعكس عليها بعض آرائه وأفكاره في الحياة والمجتمع الفاسد. هذه الآراء والأفكار هي التي أودعها كتابه (فلسفة المجانين). ولم تكن فلسفة المجانين إلا فلسفة عقلاء ذوي حساسية مرهفة، تمضي على هيئة خواطر أو أحاديث يتجه بها إلى صديقه الكجا وتنتقل من العيد إلى مشكلة الزواج إلى الدجاجة الفاضلة والهواة الحمقى.. إلى الهازئ من الحياة إلى الأغنياء الأغبياء إلى المفارقة بين الحمير الحقيقيين والحمير الآدميين إلخ.. إلخ..». صدر كتاب «فلسفة المجانين» في منتصف عام 1381 هـ أي قبل مقال عبدالله عبدالجبار، وذكر البواردي في مقدمته أنه مهدى إلى «كجا» السباعي، ونشرت عنه صحيفة «اليمامة» في 2 ربيع الأول 1381 هـ، الموافق 13 أغسطس 1961 م، تنويهاً موجزاً، ثم نشرت لاحقاً افتتاحية بعنوان «العيد» للعدد 315، الصادر في 28 رمضان 1381 هـ، الموافق 4 مارس 1962 م، وكتب في مقدمة الافتتاحية أنها: «من كتاب فلسفة المجانين الذي صدر حديثاً لمؤلفه سعد البواردي.» ومن الذين استعرضوا الكتاب بحماس وعلقوا عليه مطولاً الكاتب الشاب صالح العذل- معالي رئيس مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية فيما بعد- الذي نشرت له صحيفة «القصيم» عرضا في ثلاث حلقات بعنوان: «سعد في فلسفة المجانين»، نشرت أولاها في العدد 98، في 29 جمادى الأولى 1381، الموافق 7 نوفمبر 1961 م. ولفت نظري في أولى تلك المقالات قول الكاتب: «فالكتاب- ويقصد الكاتب- يريد جواً حراً يحلل فيه كل نزعة فلسفة.. وكل فكرة عميقة... الكتاب قطعة ثقيلة من الألم والحزن. الكتاب مغموس في العمق وبنفس الوقت مغموس في الدم. خرج المجنون وأسميه مجنوناً لأننا كلنا مجانين.. والمؤلف أحدنا..». بعد تسعة أعوام من ذلك التاريخ، في مقابلة أجراها معه فهد العرابي الحارثي – الدكتور فهد الحارثي فيما بعد- احتلت صفحة ونصف الصفحة في جريدة «الرياض»- العدد 1535، بتاريخ 28 ربيع الأول 1390 هـ، الموافق 3 يونيو 1970 م- قال البواردي رداً على سؤال عن سبب إهداء كتابه إلى «كجا» السباعي: «أولاً أنا مدين لأحمد السباعي بكثير من أفكاره كأستاذ.. أما سر إهدائه إلى (كجا) أحمد السباعي فهو أن هذا الكتاب الصغير جاء نتيجة ارهاصات طافت وطفرت في ذهني بعد أن قرأت «فلسفة الجن».. وما دام أن الكجا يعتبر قاسماً مشتركاً أعظم لفلسفتي الجن والمجانين، فمن أولى أن يهدى إليه هذا الكتاب غيره !!؟». تلك قصة تفاعل اثنين من مثقفي المملكة، من جيلين مختلفيــن، جمعهمــا هــم إنســـاني مشترك، عبر كل منهمـا عنه بطريقتــه. وذلك بعد من أبعاد شخصية البواردي في مجال الكلمة والرأي، ولعل الفرصــة تسنح في المستقبل للكتابـة عن أبعاد أخرى من شخصيته، ومنها بعد ساخر أبدع فيه، ولم يستمر فيه طويلاً.