الروائي السوري سومر شحادة:

الفن لا يقود التغيير بل يلهم الآخرين به.

سومر شحادة روائي سوري معاصر من مواليد مدينة اللاذقية (1989)، وهو صوت أدبي يعبّر عن قضايا المجتمع السوري والعربي. ويأخذنا في أعماله عبر رحلة داخل الأسئلة الكبرى التي يواجهها الفرد والمجتمع في لحظات مصيرية. ما يميّز أسلوبه قدرته على المزج بين التحليل النفسي العميق للشخصيات، والأسلوب السلس الذي يجعله قريباً من القارئ. حازت روايته الأولى «حقول الذرة» جائزة الطيب الصالح (2016) وصدرت عن دار ممدوح عدوان (2017)، ثم تلاها رواية الهجران الصادرة عن دار التنوير (2019) وحصلت على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية (2021)، كما صدر له عن دار الكرمة «منازل الأمس» (2023)، و»الآن بدأتْ حياتي» (2024). كان لنا هذا الحوار معه للتعرف على تجربته الأدبية. * كيف كان للبيئة السورية عامة ولمدينة اللاذقية خاصة دور في تشكيل رؤيتك الأدبية؟ كيف أثر سياقك الثقافي والاجتماعي على توجهك الأدبي؟ أنا لا أعيش في مدينة كبرى أو في عاصمة، أعيش في اللاذقية، وهي مدينة توصف بأنَّها قرية كبيرة. بصرف النظر عن هذا التوصيف، إلا أنني في النهاية عرفتُ الكثير من التجارب التي تصنع مزاجَ المرء في هذه المدينة الصغيرة، تجارب مثل الحب والصداقة، وانهيارهما. بلا شك، الكاتب ابن سياقه الاجتماعي والثقافي. لكن ما شغلني في الروايات التي كتبتها، هو تصوير علاقات البشر في المكان الذي خبرتُ الحياة فيه، ومع المكان أيضاً. أظن أن الخصوصية التي كانت للاذقية في كونها مكانٌ معرّضٌ للتخلي بسبب ظرف الحرب، وما نتج عنها من صعوبات. إلى جانب طيف الموت الذي استمرَّ يهمي عليها لسنوات طويلة. * هل تعتقد أن الأدب يمكن أن يحمل عبء تمثيل أزمة وطن ما؟ وكيف توازن بين التوثيق والخيال الإبداعي؟ الرواية ليست الواقع تماماً، إنَّما هي صورة عنه، انزياحٌ فني عنه. إنَّها عنفُ الفنان ضدَّ واقعه وفي وجه واقعه، خاصة إذا كان واقعاً مضروباً بالصورة التي هو عليها هنا. مع ذلك، فالرواية -كما كتبتها- مرتبطة بالواقع وهي قراءة وتفكيك له، أو استخلاصٌ فني لبعض قضاياه. أظن أنَّ الرواية بصورة عامة في الأزمات الكبيرة؛ تدور بين هذين الطريقتين في التعاطي مع الأدب. وهذا سؤال لكلّ كاتب طريقته في الإجابة عليه، أقصد في تجربة الكتابة نفسها. أخيراً يوزَّع الأدب إلى جيد ورديء، لا إلى توثيقي ومتخيل. * باعتبارك كاتبًا نشأ في بيئة سورية محملة بالأحداث، كيف توازن بين تصوير المأساة السورية بموضوعية وبين خلق مساحة جمالية في نصوصك؟ هذا بالتحديد ما سعيتُ إليه في الأعمال التي كتبتها، ولا أعرف إلى أي حد نجحت، لأنَّه اختبار صعب. من جهة، المأساة استمرّت دائرة لأكثر من عقد من الزمن، وما تزال مستمرة، لكنها لم تعد في واجهة الإعلام. ومن جهة أخرى، شرط الرواية تحقيق المتعة للقارئ. أي، أن يقرأ القارئ نصاً ممتعاً، قادراً على أن يقنعه وأن يشدَّه إليه. بهذه الصورة، أظن أنَّ الرواية السورية كانت مشروخة بين قوتين؛ إحداها تأتي من صعوبة الواقع وانسداد آفاقه، والثانية تأتي من شرط الفن نفسه الذي يطمح لنص يعبرُ زمنه. لكن لا أعرف إلى أي حدّ نجحت في جعل المأساة حدثاً روائياً، إذ توجد مسائل تحتاج مضي الزمن ليحكم المرء فيها. خاصَّة أنَّ الجو الثقافي العام في سورية، وخارجها؛ أصابه ما أصاب السياسة من استقطاب وعصبيات تشوَّش على استقبال النص الأدبي. * هل يمكن اعتبار كتابتك دعوة للتغيير، أم أنها محاولة لخلق وثيقة فنية تُبقي الذكريات والتجارب حية؟ أظن أنَّ الدعوة للتغير كلمة كبيرة. خاصة بعد مضي هذه السنوات السوداء التي ترافقت دائماً مع دعوة للتغير. أظن أنَّ الفن بصورة عامة يطمح للتغير. إلا أنَّه لا يقوده، بل يأمله ويلهم الآخرين به. خاصة في مجتمعاتنا، فالتغيير المنشود أظنه تغييراً في السياسة وفي الاقتصاد وفي التنمية وفي إتاحة الحريات العامة والخاصة وفي تمكين البشر من أن يحكموا أنفسهم. وهذا كله يدور في فضاء رجل السياسة أو صاحب القرار، لا الروائي. أيضاً لا أنزع عن الفنون قدرتها على التغيير. لكن أظنها تغيّر في العالم الداخلي للبشر، لا في الظروف العامة. * تبدو شخصياتك مفعمة بالعمق والتعقيد. ما الذي يشدك أكثر عند بناء شخصياتك - صراعهم الداخلي، أم علاقتهم بالمجتمع؟ وهل تستلهم شخصياتك من الواقع؟ نعم، كل هذا، كل ما ذكرتِ يشدني ويلهمني. إلا أنَّ الشخصيات التي كتبتها كانت بنت ظروف معقدة مع اشتداد الصراع في سورية، أو الحرب، أو الثورة، أو الحرب الأهلية. حتى على التسمية لا يوجد اتفاق في سورية. أحياناً أظن أننا جميعاً كسوريين رجعنا إلى مرحلة قبل اللغة، إذ لم نعد نتحدث الكلمات نفسها، وإن تحدثنا الكلمات نفسها فهي لا توصل المعنى المنشود ذاته. حاولت جهدي أن تكون الشخصيات التي كتبتها، وفيَّة لهذا الواقع المركب شديد التعقيد. إلى درجة أنها تبدو بالنسبة إلى شخص بعيد عن الواقع السوري شخصيات بسيطة، لا عمق فيها. * كيف ترى دور الأدب وسط الأزمات الإنسانية، وهل تعتقد أن الكتابة قادرة على إحداث تأثير ملموس؟ الأدب هو تجربة البشر في مكانٍ وزمانٍ محددين. وعندما يكون الفنان وفياً لشرطِ زمانه ومكانه، أظن أنه يؤدي دوراً ما. لكن أيضاً، النظر إلى الأدب لا يأتي من طبيعة دوره، إنما يأتي من اتقانه، من جدّته، ومن نظره إلى مصائر البشر، لا وفق حسابات مرحلية أو مواقف ضيقة. ربما لأننا عشنا أزمنة ضيقة، مثّل الأدب بالنسبة إلي، استعارة عن الرحابة، بل كان هو الرحابة عينها. وهذا أمرٌ يخصني، قد يخص قارئاً ما. إلا أنني توقفت عن البحث عن دورٍ خارج ذاتي. فقط، تعلّمت أن عليّ أن أكون وفياً لما أكتب. * ما الذي ترغب في أن يتذكره القارئ من أعمالك بعد سنوات؟ وكيف تنظر إلى دور القارئ العربي في فهم ودعم الأدب السوري؟ ربما أنهم يقرؤون حكاية أناسٍ تفككت كل مفردات وجودهم؛ بلدهم، عائلاتهم، بيوتهم، أصدقاؤهم. هذه تجارب قاسية قد تحدث في أمكنة عديدة وفي ظروف مختلفة، إلا أنَّ الحرب تعطيها بعداً تراجيدياً، لأنَّ هذه الشخصيات لم تحظَ بفرصة حياة عادية يسهل فيها على المرء أن يختار بين أمرين. أما عن التذكر، لستُ أعرف، ربما إنَّ الإنسان يجهل نفسه والظروف هي التي تختبره، وتدفعه ليعرف ذاته معرفة حقيقيّة. * في رواية الهجران تجسد جوري الوجه الآخر للهجران حيث لا يتعلق بالهروب من مكان أو وطن، في هذه الرواية فتحت نافذة على الهجران النفسي الذي يعد أكثر ألماً من الهجران المكاني. كيف ترى علاقتها مع ذاتها انعكست على تعاملها مع الآخرين؟ على العكس، أظن أن جوري هربت إلى ما فقدته بسبب الحرب، لا مما فقدته. أقصد، إن مسعاها كان يقتصر على حقها بأن تحظى بالحب، بأن تكون فتاة محبوبة من أحدهم. وقد وجدت نفسها من جرَّاء تلك الرغبة اللحوح في علاقةٍ لم تكن لتقبل بها لو أنَّ قوى المجتمع متوازنة. أيضاً عنون “الهجران”، كان يمكن يكون الأسى؛ لأنَّ الأسى يملأ زوايا هذه الحكاية على الرغم من أني حاولت أن أنتهي بالأسى إلى نظرة فيها أملٌ بلقاء بشرٍ يشتركون في حاجاتهم لأن يكونوا محبوبين، مرئيين، وأن يربت أحدٌ على كتفهم، أو يأخذهم بين ذراعيه. جوري في كل تعاملاتها، كانت تبحثُ عن الحب. وهذا حقها، مع ما جلب لها من معاناة، وما اكتسبته من تجربة. * كاتبة سورية مقيمة في فرنسا