تحكي الأسطورة القديمة أنه قبل نحو 5 آلاف عام، كان الإمبراطور الصيني “شين نونغ” في رحلة عبر البلاد مع حاشيته، وتوقف مع ورجاله لأخذ قسط من الراحة. وكان الإمبراطور اعتاد شرب كوب من الماء الساخن من حين لآخر، اعتقاداً في قدرته على الوقاية من الأمراض المختلفة. وأثناء نوم “شين نونغ” سقطت ورقة شجر في الكوب، فتحوّل الماء الفاتر إلى اللون الأصفر. وحين احتسى الإمبراطور هذا الشراب دون أن يلحظ الورقة، شعر بنشاط وانتعاش ذهني لم يعهده من قبل. وهكذا، حسب الأسطورة، اكتشف العالم الشاي، ذلك المشروب السحري النفيس، الذي صنع التاريخ وغيّر وجه العالم ذات يوم! وصدر مؤخراً كتاب “الشاي: تاريخ عالمي” لمؤرّخة الطعام البريطانية هِلن صابري، عن “مركز أبوظبي للغة العربية” بالإمارات، ضمن مشروع “كلمة” للترجمة الذي قدّم خلال الأعوام عدداً من الكتب المهمة. ترجم الكتاب إلى العربية الدكتور موسى الحالول، وراجعه الدكتور محمد عصفور. وكان الكتاب قد صدر باللغة الإنجليزية عام 2010، وهو يتألف من مقدمة وسبعة فصول، وعدد من الوصفات، وسرد تاريخي لـ “سيرة الشاي عبر العصور”. وبات الشاي، أو “الشاهي” أحد أكثر المشروبات انتشاراً وشعبية في العالم الآن، لكونه مشروباً فريداً، يستهلكه البشر في جميع أنحاء الأرض بطرق شتى، وحسب طقوس معينة لكل شعب على حدة، بدءاً من التقاليد القديمة المعقَّدة للمقاهي اليابانية التقليدية، إلى “غرف الشاي” الأنيقة في بريطانيا. ومن النقاشات المنعقدة حول جلسات احتسائه في روسيا القيصرية، كما ظهرت في الأدب الروسي القديم، وحتى “قعدات العرب” المعروفة حتى هذه اللحظة، والتي يكون الشاي بطلاً رئيسياً فيها، أو يتقاسم دور البطولة مع القهوة على الأقل. “ثورة الشاي” الأمريكية تسجل “صابري” في الكتاب فصولاً غير معروفة من التاريخ العريق لهذا المشروب، وتتناول استخداماته الطبية والاقتصادية والاجتماعية، مثل استخدامه بديلاً عن النقود خلال عهد أسرة “تانغ” الصينية، ما يدّل على أنه كان “مشروباً نفيساً”. ويستكشف الكتاب الجوانب الاجتماعية والثقافية للشاي، بما في ذلك دوره في الاحتفالات الرسمية والتجمعات غير الرسمية ونشأة “بيوت الشاي” في أماكن متفرقة من العالم، من خلال الروايات والحكايات التاريخية الممتعة، تقدم صابري نظرة ثاقبة عن زراعة الشاي وإنتاجه وإعداده، وتسلط الضوء على أنواعه المختلفة وخصائصها، وتستكشف أين وكيف يزرع الشاي في العالم، وكيف أصبح جزءاً لا يتجزأ من الثقافات والمجتمعات المختلفة. وبشكل عام، يقدّم الكتاب عبر فصوله السبعة، سرداً شاملاً وشائقاً لرحلة الشاي العالمية، من جذوره القديمة إلى شعبيته الدائمة في جميع أنحاء العالم، كما يسلط الضوء على التفاعل المعقد بين الثقافة والتجارة والتقاليد التي شكلّت عالم الشاي. وكان شرب الشاي قديماً، بعد اكتشافه في الصين، يقتصر على الطبقات النبيلة فقط نظراً لغلاء سعره وقتها، وكانت دعوة الضيوف إلى احتسائه دليلاً على ثراء المضيف. ووصل الأمر آنذاك في بعض دول الشرق الأقصى، مثل اليابان، أن بات للمشروب خصوصية دينية. إذ اقتصر احتساؤه في اليابان بعد نقله شتلات أشجاره من الصين، على الكهنة البوذيين فقط، وتحوّل شربه إلى ما يشبه “الطقس الديني” في تلك الحقبة التاريخية. خلال عهد أسرة “تانغ” حققت الصين ازدهاراً لا مثيل له. كانت تلك حقبةً مجيدةً ازدهرت فيها التجارة. وظهر شاي ذو جودة أفضل، وراح يشربه أفراد الطبقة العليا والعلماء والكهنة بصفته مشروباً مباركاً. مع الغزو المغولي للصين عام 1280، انخفض استهلاك الشاي في البلاد بشكل غير مسبوق، جرّاء الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي عمت الصين على أيدي المغول، فأصبح المشروب عملة نادرة. وترصد المؤلفة كيف تطورت العادات والتقاليد المحيطة بالمشروب من أصوله الأسطورية إلى شعبيته الحالية. كما تتطرق أيضاً إلى دور الشاي في تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين الدول في العالم القديم، وكيف تسبَّب الشاي في استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا. في عام 1773، أقرّ البرلمان البريطاني “قانون الشاي”، بفرض ضرائب على عدة سلع تُباع لمستعمرات بريطانيا في الولايات المتحدة. وكانت “شركة الهند الشرقية” الشهيرة تستورد الشاي لحسابها من الشرق، فقاطع سكان المستعمرات الأمريكية هذا الشاي البريطاني. وصعد مجموعة من الثوار الأمريكيين على متن ثلاث سفن، تابعة “شركة الهند الشرقية”، على ساحل مدينة بوسطن، وأفرغوا حمولتها الهائلة من الشاي في مياه المحيط. وهو الحادث التي عُرف تاريخياً بـ “حفل شاي بوسطن”، فتصاعدت الأمور إلى أن وصلت إلى حرب استقلال هزم فيها البريطانيون في معركة “يورك تاون”. وكانت تلك شرارة اندلعت على إثرها حرب الاستقلال الأمريكية التي استمرت نحو ثلاث سنوات، وحصلت بعدها الولايات المتحدة على استقلالها عام 1776. مشروب النبلاء والصفوة حدث التطور المفصلي في تاريخ الشاي، وفق الكتاب، في القرنيّن الخامس والسادس عشر الميلادييّن، بعد أن صار سلعةً يُتاجَر بها مع الغرب. وكان تجار بلاد فارس (إيران حالياً) وأفغانستان، يلعبون دور الوسيط في هذه التجارة، وغالباً ما تحكم هؤلاء التجار في حركة نقل البضائع المختلفة من بينها الشاي عبر طريق الحرير، الرابط بين شرق العالم وغربه آنذاك. ويبدو أن مدينة بَلْخ القديمة في شمال أفغانستان، التي كانت ذات يوم مركزاً تجارياً مزدهراً، قبل أن يدمرها جنكيز خان في القرن الثاني عشر الميلادي، كانت آخرَ محطةٍ لحركة المرور الكبيرة للشاي. كما أن “الشاي خانة” أي البيوت التي يحتسى فيها المارة المشروب، أصبحت جزءاً مهماً من الحياة اليومية في العديد من البلدان الواقعة على “طريق الحرير”. فهي أماكن يجلس فيها الرجال ويستريحون ويستمتعون باحتساء الشاي، وكانت بمثابة المقاهي العامة في عصرنا الراهن. ويرصد واحد الفصول المهمة في الكتاب، كيفية دخول الشاي إلى إيران وتركيا. فحسب المؤلفة، لم يكن لشرب الشاي في بلاد فارس تاريخ قديم، وربما وصل إليها من الصين عن طريق القوافل المبكرة، لكنه لم يترك سوى أثراً ضئيلاً. فقد ظلت القهوة، المشروب المفضل لمئات السنين. وفي عشرينيات القرن الماضي، اعتبر رضا بهلوي، شاه إيران قبل الأخير، أن المقاهي كانت تُنمي المعارضة السياسية، فقرر إقناع الناس بالتحول إلى شرب الشاي. وهكذا استورد أصناف شاي جديدة من الصين، وجنّد عائلات صينية للإشراف على زراعته الشاي في البلاد. وقد نجحت جهوده، فأصبح الشاي المشروب الأكثر شعبية. من جهة أخرى، وصل المشروب إلى تركيا من خلال روسيا، إذ ازدادت مع نهاية القرن الثامن عشر كمية الشاي المستوردة إلى روسيا بالتدريج، ولاسيما في عهد كاترين العظيمة. وشاع أولاً بين النبلاء والصفوة الروس، كما حدث من قبل في الصين، ثم انتشر في النهاية إلى الطبقات الأخرى. وعندما اكتمل إنشاء خط السكة الحديد عبر سيبيريا في بداية القرن العشرين، انتهى عصر قوافل الإبل، وصار الشاي يُنقل عن طريق السكك الحديدية. أدى هذا إلى انتشار شرب الشاي في جميع قطاعات المجتمع الروسي. وطور الروس عاداتهم الخاصة بشرب الشاي، عبر استخدام “السَّمَـاوَر” وهو حوض ماء معدني تحته موقد وبداخله أنبوب أسطواني يصل إلى القمة، وعلى المحيط الخارجي للحوض صنبور لسكب الماء الساخن، كان الناس يتحلّقون حوله، ويخوضون في نقاشات سياسية وأدبية شتى. بحلول القرن التاسع عشر، أصبح شرب الشاي طقساً مهماً في حياة الأتراك اليومية. وكان يُقدّم في المنازل الخاصة والأماكن العامة، فازدهرت صالات وبيوت الشاي. ومع أن السلطان عبد الحميد الثاني (1876–1909) كان من مشاهير مُحبي القهوة، فقد أظهر اهتماماً كبيراً بالشاي، خاصةً زراعته، وأدرك أهميته الاقتصادية. شجع أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، الشاي المنتج محلياً، ليكون بديلاً عن القهوة المستوردة، التي أصبحت باهظة الثمن وغير متوفرة، عقب الحرب العالمية الأولى. وسرعان ما أصبحت تركيا مكتفية ذاتياً، وكل الشاي المنتج تقريبا يأتي من مقاطعة “ريزه” على ساحل البحر الأسود، ومعظمه للاستهلاك المحلي. واليوم، باتت تركيا هي سادس أكبر منتج للشاي في العالم. من جهة أخرى، جلب الهولنديون أول شحنة من الشاي الياباني والصيني إلى أمستردام عام 1610. وكان الشاي سلعةً جديدةً باهظة الثمن، ولكن بحلول عام 1660 شاع احتساؤه بين من يستطيعون تحمل تكلفته. فقد كان مشروباً ذا مكانة عالية، بل إن العائلات الموسرة خصصت غرفاً خاصة يُقدّم فيها الشاي. لكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر، صار الشاي الهندي يستورد بسعر أرخص إلى بريطانيا. وصار بإمكان عائلات الطبقة العاملة جعل الشاي مشروبها الرئيس. فعند عودة العمال إلى منازلهم من المناجم والمصانع، كانوا يستقبلون بوجبة دسمة مع إناء كبير من الشاي الأسود الثقيل المُختلط بالحليب والمُحلى بالسكر. ومع هذا التحول يمكن القول إن الشاي تحول من مشروب للنخب إلى مشروب للناس العاديين. من جانبهم، تأخر العرب كثيراً في التعرف على الشاي، فلم يعرفوه على نطاق واسع إلاّ خلال القرن التاسع عشر، حيث أولاً في تركيا، بعد أن أعطت السلطات العثمانية تصاريح لبعض مواطنيها باستيراده. ومنها انتقل إلى سوريا، ثم انتشر بشكل واسع في العالم العربي كله. وكما حدث قديماً في بلدان الشرق الأقصى، بدأ الشاي سيرته العربية في دول مثل مصر كمشروب نخبوي للأثرياء والمثقفين فحسب، مع الاحتلال البريطاني للبلاد عام 1882، لكنه أصبح شعبياً بعد ذلك مع ازدهار المقاهي خلال حقبة الحرب العالمية الأولى، إلى حد أنه بات المشروب الشعبي الأول في هذا البلد العربي. *صحافي، عضو اتحاد كُتاب مصر.