لا وجهةٌ تبدي لنا وجهَ النهارْ كلا ولا الظلُّ المسافرُ قد يعودْ هل يحملُ النجوى إليكْ طيفٌ يجرُّ الذكريات وراءَهُ يسري خفيفاً في الخفاءْ ؟ لتضِلَّ وحدَكَ تستظلُّ بقلبكَ القروي والريحُ تعوي, والحداءْ ماذا سيبقى منك حينَ يذوبُ فيكَ الوقتُ والدنيا وتهجرك السماءْ ؟! مقطع من نص ( متاهة الذات ) للشاعر معبر النهاري . [ يُرجَّح شقاء الإنسان,مهما يكن سببه المباشر, إلى إدراكه أنَّ الذات حبيسةٌ, وأنَّ طاقتها الحيوية تتبددُ عبثاً في صراع داخلي, لا طائلَ وراءَه, أو كما عبَّر عن ذلك ت . س . إليوت بقوله : إننا نفكر في المفتاح . . كلٌّ منا في محبسه, يفكر في المفتاح . والشاعر الذي يستطيع أن يعبر عن حقيقة هذا الصراع في عمل أدبي خالدٍ يكونُ قد فكَّ قيده مؤقتاً, وبارح محبسه, ولو إلى حين ؛ لأن عملية الخلق في حدِّ ذاتها نوعٌ من الانطلاق ] إليزابيث درو ( الشعر كيف نفهمه ونتذوقه ) . يشير الجاحظ في مقولته الشهيرة المعاني مطروحةٌ في الطريق إلى تبيان الأثر النظمي للمفردات والتراكيب في النص, ولعلي أزعمُ أنَّ ( متاهة الذات ) من أميز النماذج الشعرية المنسجمة مع المقولة الجاحظية التي هي في أصلها ليست إقلالاً للمضامين, كما قد تتعجل بعض الأفهام على أنها معانٍ مبتذلة, والأمر ليس كذلك على الإطلاق, ولكنها مقالة دقيقةٌ في سياقاتها وعميقةٌ في إشاراتها ولذلك تصدى لتجليتها البلاغي الكبير عبدالقاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وتحديداً في مسألة اللفظ والنظم حيث قال :( ومعلومٌ أنَّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصَّوغِ كالفضة والذهب, يُصاغ منهما خاتمٌ أو سوارٌ, فكما أنَّ محالاً إذا أنت أردتَ النظر في صَوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه العمل وتلك الصنعة, كذلك محالٌ إذا أردتَ أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه, وكما أنا لو فضلنا خاتماً على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود, أو فضة هذا أنْفسُ, لم يكن ذلك تفضيلاً له من حيث هو خاتم, وكذلك ينبغي إذا فضلنا بيتاً على بيت من أجل معناه أن لا يكون تفضيلاً له من حيث هو شعرٌ وكلامٌ, وهذا قاطعٌ, فاعرفه . ) وهذا الإيضاح من شيخ البلاغيين سابقٌ الأغيار من الأسلوبيين القارئين العالمين بخفايا النص, فالمعاني والمضامين ليست وحدها المانحة للعمل الشعري قيمته وإنما قد تكون من القيمة المضافة والمرجحة, والاعتماد في التقييم على المنهاج الذي سلكه التركيب الشعري و على التنسيق للمعمار النصي, وفي ذات التوقيت على المضمون معاً, فالمادة الأولية واحدة ومعروضة ومعروفة لصياغة الخاتم من الفضة وهي المادة الأساسية, وإنما المفاضلة حسب شرائط أخرى تأتي ما بعد المادة الأولية, أو كما قال قدامة بن جعفر في نقد الشعر : (. . أنَّ المعاني كلها معروضة للشاعر, وله أن يتكلم منها في ما أحبَّ وآثر, من غير أن يُحظَر عليه معنى يروم الكلام فيه, إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر كالصورة, كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصور منها, مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى . . أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة ) . النص ( متاهة الذات ) عنوان مركب من مفردتين, وبالمناسبة لا أريد أن تفوتني الإشارة إلى اللوحة التشكيلية في خلفية النص ثم الإشادة بها, فقد تماهت اللوحة مع النص ثم تمادت مع معطياته في التشكيل, فكلما أمعنتَ النظر فيها بالغتْ اللوحة في تضليلها لك في متاهات سراديبها وأنفاقها, فإذا كان العنوان من المتداول في الكتابات الشعرية الحديثة فما الذي يجعل متعتنا حاضرة في نص ذي عنوان دارج ومستفيض ؟ أظنُّ أننا محتاجون لاستقصاء مقولة الجاحظ السابقة ففيها الإجابات الشافيات عن التساؤل, فالجرجاني يناقشها باستفاضة لافتة من حيث اعتبار المعاني من المضامين العمومية التي يعلمها القاصي والداني, وأنَّ المعاني ليست بابتداع من عدم, والكلام للجرجاني بالطبع في مساءلته للجاحظ ومقالته فيذكر (وذهب الشيخ, يقصد الجاحظ, إلى استحسان المعاني, والمعاني مطروحةٌ في الطريق, يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي, وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيُّر اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك, وإنما الشعر صياغةٌ وضربٌ من التصوير . . واعلم أنهم لم يعيبوا تقديم الكلام من حيث جهلوا أنَّ المعنى إذا كان أدباً وحكمة وكان غريباً نادراً فهو أشرفُ مما ليس كذلك . . ومعلومٌ أنَّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة . .) قد تكون ثيمة الذات من الموضوعات الذائعة الانتشار ولكن كيفية طرحها وكيفية صياغتها لتخرج نصاً إبداعياً هي الميزة الكبرى والعلامة الفارقة والسمة الغالبة لتشكيل نص يتحدث عن الذات . فالذات النصية في نص الشاعر معبر النهاري حتما تختلف عن الذات التي تشكلت في أبيات قصيدة ( أنا ) للشاعرة نازك الملائكة، حيث تقول في أحد مقاطعها : [ والريح تسألُ من أنا ؟, أنا روحها الحيران أنكرني الزَّمانْ، أنا مثلُها في لا مكانْ, نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ, نبقى نمرُّ ولا بقاءْ, فإذا بلغنا المنحنى, خِلناهُ خاتمةَ الشَّقاءْ, فإذا فضاءْ . . . الذات تسألُ من أنا ؟، أنا مثلُها حيرى أُحدّقُ في ظلامْ، لا شيء يمنحني السلامْ, أبقى أُسائلُ والجوابْ، سيظلُّ يحجبُهُ سرابْ، وأظلُّ أحسبُهُ دنا، فإذا وصلتُ إليه ذابْ, وخبا وغابْ ] فالذات هنا في نص (أنا) ذاتٌ متساءلة الموجودات عن كنه وجودها, أو الذات تسأل سؤال الوجود والكينونة ومغزى حياتها ومكانتها وموقعها في العالم الخارجي, وهنا سؤال الذات عن سرِّ العلاقة من الداخل بالخارج, بينما الذات في نص ( متاهة الذات ) النص لا يطرح الأسئلة الوجودية وإنما يقدم الأدلة والبراهين على توهان الذات في عالمها المحيط,وفي هذا التيه تتبدى استدعاءات من مخزون الذاكرة, وآلام الذات ومعاناتها مع زمنها، ولكنها ذاتٌ رافضة للخارج ونابذةٌ للواقع وداعية إلى الحقوق الطبيعية لمطلق الأمل في الخلاص من أنين العلاقات التي هي من آثار الخارج على الداخل . أو كما يقول النص : [ أَتَحسسُ الذكرى وأعتسفُ الخطرْ, وأَظَلُّ أَحيا في انتظار مواسم اللقْيا, وأغنية القمرْ, وعلى بساتين من الوحي المؤطّرِ بالقدرْ, سيلوحُ في أقصى وجيب القلبِ, طَيفُكَ والمآب, لأظلَّ مصلوباً على قلقِ اشتياقْ، بيني وبينكَ,ما يَطيقُ ولا يُطاقْ ].