من متاهة الموت تبدأ الحكاية، والموت في ذاكرة الفلسطيني لايبدو موتاً عابراً، فهو حين يحضر يحضر معه الدم والسكاكين والضحايا، لذلك يتبدى هذا الموت في ديوان جعفر حجاوي الأول “الغجرية تبحث عن أرضها” محمولاً على المفارقات، فمع عبوره الهادئ هو هازيء ومع كل جرءته هو بطيئ، الا أن الشاعر يختار الحياة شريداً كغجرية على البقاء عند أرصفة البكاء، يتلبس أسئلتها وهو يمنحها المكان لتتجلى، تصبح ذريعته لاكتشاف معنى الحياة، فالغجرية هنا هي مراياه كفلسطيني وجد حياته تتمايل كالسفينة في عباب بحر هو ذاكرة الترحال بالنسبة للبعض، وذاكرة الانتظار للبعض الآخر. هنا الرحيل يأخذه شكله القدري، ويشكل أفق الحركة داخل النص، إيقاع حياة الغجر سيلقي بظلاله على صورة الأرض التي تستحيل إلى تعب، وتشكيلات من الحزن، ومسافات لا تنتهي، يصبح مشيا ًمستمراً في دروب الوداع، ومواجهة دائمة مع الليل. أنا الرحيل... يقول الشاعر، وهو يوصي حوريته أن تتقصى رائحته في ثياب القوم الراحلين، فهم صورته في الغياب، وطيف أحبابه الذين شاطروه أمانة الحب في هذه الأرض.. لكنهم تركوه وحيداً في وحدة الأسماء.. يتبادل هنا البحر والموت أدوارهما، كلاهما عنوان للغياب، للسفر، في ارتباك المشاعر وتأرجحها، كلاهما يتمثل كحاجز بين الحضور والغياب، بين الألفة والاغتراب، هنا يجرب الشاعر زحزحة الصور الثقيلة واستعادة صور الطفولة، استعادة صور الحب الأبدي، حب الأمهات، يحرر روحه من بقايا التشرد وهو يجرب الوقوف أمام دمعة امه: تقول تعال صل أمام ظلي أنت مازلت الحبيب الطفل كبرت كبرت يا أمي وشاخت دمعتاي: وأنت “مريمي” الوحيدة من تهزين الفؤاد لكي ينام كطفلة تعبت فألقت للتراب رداءها الحزن هو المقابل دائماً للفقد، للرحيل، للحنين، تتسلل غيوم الدمع من نصوص حجاوي لكنها دموع الحب، دموع التحدي، ودموع المواجهة مع واقع اختزن الكثير من صور الحزن والوجع، يستدعيها في صورة طفل “سلبوه رائحة التراب”، تطارده جرعات الموت، غير أنه يصر على انتزاع طفولته من حقل الألغام ليصنع لعبته الأثيرة..وفي ترسبات النكبة التي رسمت فصول العذابات في سيرة الفلسطيني، وأخذته إلى سنوات الشتات.. في المقابل، يأخذ الحزن وجهاً رومانتيكياً حين يشبهه بحزن الغيمة الذي يهبنا المطر، حين يحيل الحب إلى حزن عراقي كحزن النخيل، وحين يراه في دمع المراهقات الصبايا. هذه النفثات الحزينة يحاصرها بوصلات من الغزل، من اشتعال القلب لتلك الأنثى الواهبة للاشتياق، يناجيها وهو يسألها الوصال، حد الخوف من الضياع، يناجي قلبها كيما تقطع حيرة خطواته، وظمأ روحه، وسنوات التيه التي ستبدل من إيقاع حياته، وترميه في قاع لغة من التصوف كما في قصيدة تيه : عشرون غيبا في العراء وتيهنا رجل أحب الله لما ضيعه يسعى إلى جبل الهداية وحده تتوضأ الدنيا وتشرب مدمعه تتجلى هذه اللغة أكثر فأكثر في قصيدته الأخرى “خطى على الرمل”، وكأنها تمارين على استثمار الكثافة الشعرية في الصور الدينية: صليت ثم مشيت حتى قيل لي: أرض مقدسة.. خلعت حذائي وصعقت حين رأيت برهان الرؤى ورأيت حين صعقت روح الماء ترق العبارة شيئا ًفشيئاً فتشف عن روح العاشق، المتأمل في التفاصيل، حين يلجها بكل أحاسيسه، يتأمل الليل فيغرق في صور من يحب، في ذاكرته، وفي الأرض التي ستختزل صورة الحبيبة، يستدعي صورة الملاجئ وهو يتغزل فيها حزنها الفلسطيني المقدس، يصبح اشتياقه للمكان معادلاً لاشتياقه لذاته الغائبة في أتون الغربة ومكابدات الوحدة، الوحدة التي يعالجها بتعويذات من صور الاشتياق، وتنويعات على مقامات الغزل، في لغة باذخة العذوبة، يقول في قصيدته غرب: كأنك الشفق الملقى على كتفي ليسند البحر من إطراقه الشفق لن يغيب الموت حتى في ذروة الاشتغال على الغزل، فهو يستعذب الموت في عيني محبوبته، كما لن يغيب الحزن والدمع في سيرة الحب عبر نهر القصائد الكثيرة عنده، قصائد جمعت بين ملوحة الدمع وملوحة البحر، بمثل ما جمعت رؤى الوطن ورؤى الاغتراب، لتطل التنهدات شفيفة بين ظلال القصائد، متلبسة بروح الحزن دون الاستغراق فيه، ومنحازة لتضاريس الروح الفلسطينية التي تأخذ من أحزانها مسوغاتها لحب الحياة والفرح.