هذا هو الكتاب الثاني للمؤلف الذي يخص نجيب محفوظ، كتابه الأول كان عن الرواية المحرمة: أولاد حارتنا، وهذا هو الكتاب الثاني، والكتاب ليس سيرة غيرية عن نجيب محفوظ وإنما هو كتاب عن سيرة نجيب محفوظ التي لم يكتب إلا جزءا منها. عثر على أوراقها بطريقة غريبة، كما حاول الكاتب أن يستكملها من سيرة عصر نجيب محفوظ، ومما أشار إليه الأديب عن نفسه في لقاءات صحفية، ومن تشابه بعض شخوص رواياته معه في مراحل من حياته ومع بعض أقاربه، وجد بعض الناس في رواياته صورة عن أشخاص يعرفونهم، وقال إنه أخذ بعض أبطاله من الواقع، تحولوا على يديه إلى شخصيات روائية لا تشبه الشخصيات الحقيقية إلا قليلا، في رواية أحاديث الصباح والمساء كتب تاريخ عائلته وفي رواية قشتمر اتخذ أبطاله ممن كان يجالسه من أصدقاء في مقهى حمل اسم قشتمر في العباسية، كما إن هناك إشارات أن مرحلة الحيرة الوجودية عنده قد ظهرت في شخصية كمال عبد الجواد بطل السكرية، أي الجزء الثالث من رواية الثلاثية، وهناك شبه بين أمينة في روايات الثلاثية وأمه التي زرعت في حياته حب آل البيت والتعلق بمزاراتهم والتي كانت تملأ لياليه بحكايات عن الجن والعفاريت، ألهبت خياله فوجد نفسه مغرما بتأليف القصص. كما أن أحد أعمامه كان طالب حقوق، مهتما بالعمل السياسي، فاستلهم منه شخصية فهمي عبد الجواد في رواية بين القصرين، أما شخصية السيد أحمد عبد الجواد فقد أخذها من خلط شخصية أبيه مع شخصية أخيه الأكبر، وجارهم الشيخ رضوان الذي كان معمما يجمع ملاحة الشكل وضخامة الجسم طولا وعرضا والقسوة في التعامل مع زوجته التي كثيرا ما كانت تشتكي لأمه. هكذا يمضي الكاتب بنا في متابعة إشارات نجيب عن حياته في أعماله حتى يصل بنا إلى شخصية عبد ربه التائه في رواية أصداء السيرة الذاتية، التي تعكس آخر ما تطورت إليه شخصية نجيب محفوظ في مرحلة فيها سماتٌ صوفية، ولكنها صوفية محفوظية . ويذهب الكاتب أكثر من ذلك في التحليل، ففي استعراض بعض الروايات التي تحدثت عن الآباء، عكس وجودهم في روايات محفوظ ما كان يراه الرجل من أن ظاهرة المجتمع الأبوي في الحياة العربية كانت سببا في منع تطور النظام الاجتماعي في العالم العربي إلى أجواء الديمقراطية والحرية والإبداع الفكري. وجد الكاتب المخطوطة التي كتب فيها محفوظ سيرته المبكرة، والتي أشار إلى أنه يجد صعوبة في استعادتها. كتب نجيب محفوظ هذه المخطوطة بعنوان “الأعوام” عام ١٩٢٩م، عكس فيها تأثر ابن الثامنة عشرة بسيرة طه حسين في الأيام. وقد أشار نجيب أنها ربما قد سًرقت على يد بعض الأقارب مع وثائق أخرى، واختفت فترة طويلة. لست متيقنا من أن هذا الحدث وما بعده حقيقة أم أنه جزء من الدراما التي تحيط ببعض المشاهير، انتهت هذه الأوراق إلى فنانة تشكيلية أمريكية، عاشت في القاهرة، وكانت تجمع المخطوطات النادرة لحساب إحدى المكتبات الأمريكية المتخصصة في المخطوطات، ثم دخلت أوراق نجيب محفوظ في مزاد في لندن، واستطاعت أسرة محفوظ إيقاف المزاد لأنها لم تعط موافقتها عليه، وهكذا توقف المزاد، وانتهت الأوراق إلى أحد هواة جمع المخطوطات العرب، وهنا أيضا لا يتضح لدينا كيف وصلت اليه، والمهم أن بريد المؤلف الإلكتروني حمل إليه مفاجأة سارة، فيها خمسمائة صفحة لنجيب محفوظ، احتوت فيما احتوته على “ الأعوام” ، وبعض المسودات والكتابات الأولى لرواية الثلاثية، و” أحلام فترة النقاهة”, ورسالة الماجستير التي كتبها محفوظ عندما عمل لتحصيل الماجستير في الفلسفة الإسلامية تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق في كلية آداب القاهرة. وبعد هذه الرحلة المثيرة، نتبين أنه يمكن أن يكون لهذه الكتابات أصل ورقي، متى سيظهر؟ وما العلة في اختفائه؟ اشتهر أن نجيب محفوظ نال اسمه المركب بناء على اسم نجيب محفوظ، طبيب النساء والولادة الشهير، اذ تمت الولادة على يديه بعد ان تعسرت، فقال أبوه: إن الولد سيحمل اسم طبيبه، وكان هذا الطبيب متفوقا على مستوى العالم، ولكن متابعات المؤلف تصل إلى أن الطبيب نجيب محفوظ كان يتمتع بإجازته يوم ولد الروائي، كما أن نجيب محفوظ لم يبد عليه أنه تعرف على الطبيب مبكرا، وقد قام الأديب ثروت أباظة بالتعريف بينهما عام ١٩٤٦م، وعندها أهداه الطبيب كتابه المعنون “ حكايات طبيب” و كتب في الإهداء “ إلى نابغة الأدباء”, و لم يًبد ما يشير إلى ولادة نجيب محفوظ، وقد لاحق اسم نجيب محفوظ الطبيب القبطي الروائي المسلم نجيب محفوظ، عند تخرج الروائي من الجامعة كان الثاني على دفعته، و كان من المفترض أن يُبتعث اثنان من الدفعة إلى أوروبا، وحيث إن الأول على الدفعة كان قبطيا، فإن المسؤولين قد تجاوزوا الثاني ظنا أنه قبطي، وابتعثوا الثالث المسلم مكانه. لكن روايات أخرى مصدرها نجيب نفسه ووالدته تقول إنهم أسموه اسما مركبا “حافظ نجيب” وهذا اسم لكاتب اشتهر بعمليات نصب كتبت عنها الصحف، ولكنه ترجم قصصا للأطفال كان بطلها اسمه جونسون، وكانت سلسلة قصص بلغت عشرين، فلما لاحظ حافظ نجاحها، وكان جونسون قد مات في آخر كتب السلسلة، ألف حافظ كتبا أسمى بطلها ابن جونسون، ادعى أنه ترجمها ليستثمر نجاح القصص السابقة، وقد كانت القصص تلك من أول قراءات نجيب محفوظ، يقال إن الرجل الذي أرسلوه ليستخرج شهادة الميلاد نسى اسم حافظ نجيب، وتذكر نجيب محفوظ، وهذا ما كان. يبدو أن اختراع الحكاية مناسب لخيالٍ روائي. يتحدث نجيب عن دخوله الجامعة، كان طه حسين أحد أعضاء اللجنة التي قابلته، سأله العميد: لماذا تريد أن تدرس الفلسفة، أجابه: لأنني أريد أن أعرف الكون وأسرار الوجود. ضحك العميد قائلا: إنك خليق بالفلسفة لأنك تقول كلاما غير مفهوم. وفي الجامعة كان نجيب يداوم على حضور محاضرات طه حسين في قسم اللغة العربية، وشارك في إضرابات الطلبة اعتراضا على فصل العميد من الجامعة. بعدما نشرت إحدى المجلات روايته “ القاهرة الجديدة” تم تحويله للتحقيق، لم تكتب المجلة أنها رواية، وفُهمت على أنها تعريض بالباشوات وموظفي وزارة الأوقاف، وعندما سأل المحقق نجيباً رد: إنما أكتب رواية كالروايات التي يكتبها شقيقك. كان المحقق هو أحمد حسين شقيق طه حسين، حُفظ التحقيق ونصح المحقق نجيبا: لماذا تكتب عن الباشوات؟ اكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنا. عندما بدأ نجيب الكتابة كان طه حسين والعقاد والمازني يشكلون ما يمكن أن يسمى السلطة الأدبية العليا، لم يكتب أحد عنه رغم حصوله على جوائز شارك بعضهم في تقييم المتقدمين اليها، ربما لأن الرواية كانت فنا جديدا، وكانت فنا أوروبيا ونجيب لم يدرس في الغرب، وربما لأنه أعلن عن ارتباطه فكريا بسلامة موسى وهو على النقيض من الأدباء الثلاثة، ولذا فعندما كتب طه حسين مقالا عن روايته “بين القصرين”، وصفها بأنها قصة عالمية، اعتبر نجيب أن ذلك كان من أجمل أيام حياته. وقد كان مقال العميد بداية انفجار نقدي في الكتابة عن محفوظ، لدرجة أن لويس عوض قال عنه: إنه الكاتب الذي رضي عنه اليمين والوسط واليسار، والقديم والحديث وما بينهما. يشير الكاتب إلى أن نجيب قد بدأ قراءاته المبكرة في عهد المنفلوطي، ففي “ الأعوام “ يذكر نجيب عن نفسه: “يرتعد فرقا ورعبا”، وبمراجعة جوجل كلمة “فرق” لم تأت مطلقا في كل كتابات طه حسين، ولكنها وردت كثيرا في روايات المنفلوطي، وقد ذكر محفوظ ذلك في رسالة كتبها إلى المنفلوطي، إذ طلبت منه مجلة الوسط أن يكتب رسالة إلى أحدٍ تأثر به فكتب الرسالة تلك، كما إن الإشارة إلى روايات المنفلوطي كانت أكثر ما ورد على لسان أبطال رواياته. والدة نجيب محفوظ كانت أميه، ولكنه يقول أنها كانت مخزنا للحكايات الشعبية، وكانت تعشق سيدنا الحسين، وتزور المتحف المصري وتقضي وقتا طويلا في غرفة المومياءات، كما كانت تزور كنيسة مار جرجس، وعندما سألها ابنها عن تعلقها الغريب بسيدنا الحسين ومار جرجس كليهما، أجابت: كله بركه. ولعل نجيب حين تحدث عن والدته أراد أن يصور بساطة إيمان الطبقة المصرية الشعبية. فهذه الأم مثال بارز لها. جده لأمه كان عالما أزهريا ألف كتابا في النحو، وحقق مجموعة من الكتب منها “ قمع الشهوة في الحديث عن التنباك والكباب والكفتة والقهوة” وكتاب “مختصر الفوائد المكية في المسائل والضوابط والقواعد الكلية” وكلا الكتابين من تأليف علوي بن أحمد بن عبدالرحمن السقاف شيخ السادة العلوية بمكة. يروي محفوظ في الثلاثية حوارا بين أحمد عبد الجواد وزوجته أمينة، تتباهى فيه الزوجة بأبيها فيقرعها الزوج: يعنى هل كان الشيخ محمد عبده؟ تنتهى “الأعوام” عندما تنتقل الأسرة من الحى القديم “الجمالية” إلى الحي الجديد “العباسية” حيث تصل الكهرباء والماء إلى المنزل، وحيث يودع عالما من الفوضى والازدحام والأولياء والدراويش والفتوات، إلى عالم عصري، حيث الحدائق والمقاهي وكرة القدم، ورغم أنه في أول أيام انتقاله استعاد صورة حي الجمالية فرآها قذرة ، لكنه كان أكثر حيادية في كتاباته الأخيرة عنها، يقول إنه انقسم إلى اثنين: واحد أحب الحي الجديد بجماله وأصدقائه وعصريته، وثان كان ينتهز الفرص للعودة إلى الحي القديم فيأخذ معه أصدقاءه الجدد يعرفهم على عالم كان غريبا عليهم، مروا عليه كالسياح فعشقوه. واللافت للنظر أن الاسرة عادت إلى الحي خلال سنوات الحرب العالمية، خشية من غارات الألمان على المعسكرات الإنجليزية في العباسية، شعروا بأن الجمالية كانت أكثر أمانا، حيث لم يكن يتخيل أحد أن هجمات الألمان ستقترب من الأزهر، هل يفسر هذا عودته في أعماله المتأخرة إلى نحت شخصياته من سكان الجمالية. حيث كتب عنه كثيرا واستلهم منه الكثير من شخصياته الروائية، وأخيرا لا أكثر دلالة على تعلقه بحيه القديم من أنه أوصى بأن تخرج جنازته من مسجد الحسين. الكتابة عن الشخصيات تجتذب الكثيرين، وخاصة عندما تدور على أمر أعيد اكتشافه، الأمر الذي سمح بإثراء الحكاية هنا.