«عمة آل مشرق» لـ أميمة الخميس:

لغة تتوسل الرمزية.. وبناء تاريخي محل جدل.

في العمل الجديد للكاتبة أميمة الخميس الصادر عن دار الساقي 2024 والموسوم بـ “عمة آل مشرق” يمكن الوقوف مطولاً أمام رمزية مكشوفة لعنوان الرواية، فمفردة “مشرق” تعني أننا أمام رمزية الشرق في مواجهة الغرب، قيم هذا مقابل قيم الآخر وأسلوب حياته، وهي الرمزية المقصودة، لكنها تأتي هنا على هيئة تقرير واضح لا تتناسب وطبيعة الفن الرمزية: “منذ غادرت ميناء نيويورك، أخذت عهداً على نفسي، أن أنجو من فخ المستشرقين، عندما يعرضون المعارف، والخبرات، والتجارب التي تصادفهم في الشرق، على جداول المركزية الغربية، ليتم تصنيفها وفهرستها وفق تصورات مسبقة عن الإنسان والكون، لكن عبثاً يبدو الأمر في غاية الصعوبة، المركزية مغناطيس هائل جبار، لفتى بالكاد يتلمس خطواته في هذا الدرب” (205-206- النسخة الإليكترونية). هذه القصدية التي تجعل الرواية تتجه إلى التقريرية البحتة في كثير من فصولها والتي لا تتناسب مع عمل روائي فنّي، وقد ساعد على وجود هذه الصبغة التقريرية توسل الكاتبة إيجاد بُعد رمزي لم تنجح في توظيفه، كما في العنوان الذي جعلته بداية الكشف عن قصدية لم تبلغها، كما أكدت المعلومات التاريخية التي تم نقلها في ثنايا الرواية على جعلها وثيقة تاريخية أكثر من كونها عملاً فنّيا، إذ تبدو الحقائق التاريخية مجتلبة لم تستطع الكاتبة توظيفها بالشكل المناسب، فأوردتها على هيئة ملحوظات أو رسائل متفرقة، لكنها بقيت شذوذا كتابياً لا يتناسب مع بقية العمل، فروايات كأرض السواد لعبدالرحمن منيف، وسمرقند وليون الإفريقي لأمين معلوف وغيرها من الروايات هي الأنموذج الذي يمكن الاطلاع عليه للاستفادة منه، لأنها الأعمال التي تحوّل التاريخ إلى مشهدية درامية متناغمة وممتعة، لا إلى مجرد “إدخالات” تاريخية متنافرة تعمل ضد بناء الرواية فتهدمها من الداخل. إلا أن الإشكالية الأكبر في رواية “عمة آل مشرق” تكمن في اللغة التي كُتبتْ بها، فقد اعتمدت تشبيهات واستعارات كثيرة غير منطقية، وحمّلتها أفكاراً أشدّ غرابة ومغالطة: “منذ عمق التاريخ، اليمامة والحجاز تتبادلان مركزية جزيرة العرب، ومحطات طرق الحج وقوافل البخور، القادمة من عمان واليمن، هي مثلث درب القوافل؛ مكة، اليمامة، وبالميرا. في فترة ما، فاز الحجاز بممر قوافل الشتاء والصيف، وأسس عبر السطوة الدينية مركزية أبدية، قلبها الكعبة، لكن يبدو الآن أن يمامة بني حنيفة، تستعيد هذه المركزية بيسر عبر نبع الوفرة السياسي، الذي يغذيه النفط” (495-496- النسخة الإليكترونية)، ففي هذا المقتطف من الرواية نجد أننا نقف أمام لغة هشّة، تبدأ بمصطلح “عمق التاريخ” إذ لا يمكن وصف التاريخ بالعمق لكونه وصفاً رأسياً وليس أفقياً، فهو يصلح للحديث عن تاريخ منطقة واحدة للبحث في عمق تاريخها الخاص، ولا يمكن استجلابه للمقارنة بين منطقتين مختلفتين، كما أن هناك مصطلح “نبع الوفرة السياسي” المتضاد تماما، فالنبع ليس دالاً على الوفرة، بل على العكس تماماً، إذ يدل النبع على الشحّ والقلة، وهو لا يكون دالاً على وفرة تكمن في ذاته أبداً، بل قد يعني وفرة الأرض، فقط، حين تتآزر عدة ينابيع معاً فيقال: أرضع ينابيع وافرة الزرع. هذه اللغة المتضادة المتناقضة مبثوثة في صفحات الرواية من أولها حتى آخرها، كما أن الرواية تحمل مسلّمات لا يمكن تمريرها باللغة الضعيفة التي كُتبت بها، ولا بما سواها، إذ نجد في نفس المقتطف: “اليمامة والحجاز تتبادلان مركزية جزيرة العرب” وهي المسلّمة التي تتجاهل حضارات مركزية لا حصر لها: كحضارة بابل في دومة الجندل وتيماء، وحضارات اليمن والربع الخالي وعُمان وشرق الجزيرة العربية وتبوك والطائف وحائل ونجران ودلمون والأنباط في البتراء والعلا وغيرها، وتحصر المركزية في جزيرة العرب مناوبةً بين الحجاز ونجد فحسب، كما أن مسلّمة: “لكن يبدو الآن أن يمامة بني حنيفة، تستعيد هذه المركزية” ترد فيها مفردة “تستعيد” كمسلمة وهي ليست أكثر من خلط غير دقيق بين وجود اليمامة التاريخي، وبين حقيقة كونها لم تكن منطقة مركزية قبل مركزية “السطوة الدينية”، على حد وصف الكاتبة، ممثلة في الكعبة التي في الحجاز. كل هذا في مقطع واحد من بضعة أسطر من الرواية، لكن الرواية بمجملها لا تخرج عما ذكرته آنفاً؛ التوسل الرمزي المكشوف والتوظيف التاريخي الشاذ عن المتن، والمسلمات التي تشكّل منطلقات غير حقيقية، واللغة الضعيفة المليئة بالمصطلحات المتضادة والهشّة. ولعل كل ذلك عائد إلى كون الرواية لم تتم مراجعتها أو العمل عليها بشكل مهني، ولا أدل على ذلك من رسم الشخصيات وما يرد حولها من توصيف لا يخلو من الأخطاء العجيبة، فعلى سبيل المثال نجد أن: “عبدالقادر آل مشرق، المتأمرك الذي ولد عام 1964” (548) سيكبر عامين اثنين بعد بضع صفحات فيصبح من مواليد 1962 “كان عمره خمسة عشر عاماً، عندما غادر إلى الولايات المتحدة عام 1977، مرافِقاً لخاله المصاب بفشل كلوي” (556)، وهذا مجرد مثال يوضّح الطريقة التي تم العمل بها على الرواية، إذ يبدو أنها رواية كُتبت على عجل، فحملت من التناقضات ما يستحق بحثاً مطولاً. وأخيراً، “عمّة آل مشرق” رواية أخرى، بعد رواية دار خولة، التي تذكرني بمقولة ميلان كونديرا عن بعض الكتابات الرديئة، حين قال: “بعض الكتابات هي إنكار لوجود الهُراء”، إذ لا يمكن كتابة رواية ذات بُعد تاريخي معتمدة بشكل عام على مسلمات لا وجود لها إلا في ذهن كاتبتها، وكل هذا في قالب حكائي مفكك يعتمد على لغة هشة ومتضادة، ويحمل الكثير من الأخطاء اللغوية والمغالطات التاريخية والضعف الفنّي.