القراءة والكتابة بصفتهما جناحين.
لطالما سألت نفسي لماذا الكتابة ولماذا أكتب؟! الكتابة بداية مرآة للنفس والروح، أفرّغُ بها كل ما يعتمل داخلي من مشاعر.. ومثلما أن الاغتسال للجسد يخلصه من كل العوالق فيعود بعدها لحيويته، كذلك الكتابة تخلص النفس من كل ما يعلق بها من تراكمات المواقف والحالات اليومية، الكتابة تدربك على وضع أفكارك ومشاعرك أمامك على الورقة أو الشاشة البيضاء.. الخواطر التي تظل أفكارًا مجردة في ذهنك تتحول إلى سرب محسوس من الكلمات والجمل والأسطر التي تتنامى أمامك. الكتابة عن ذاتك لذاتك في لحظة من الزمن تشبه صورة “السيلفي” أو مقطع الفيديو الذي تصور فيه نفسك في لحظة مقتطعة من عمرك لن تتكرر!! قد تعجبك فيها ملامحك في البداية وقد لا تعجبك فتعود لتأخذ صورا أخرى تحاول فيها تغيير الملامح والزوايا، كذلك الكتابة قد تكتب ما تراه في البداية على أنه فكرة مدهشة ثم تعود إلى ما كتبت وتجده كلاما عاديا مألوفا؛ وقد تجد فيه ما هو أقل من ذلك، لكن هل تخيلت كيف سيكون انطباعك عن هذه الكتابة بعد خمس سنوات وأكثر، إنها تشبه العودة لأرشيف صورك في الطفولة والمراهقة، لن تتذمّر من الزوايا المناسبة التي لم تتخذها في لحظات التقاط تلك الصور؛ كذلك الكتابة، لن يكون تذمرك منها بعد سنوات كما هو عليه في اللحظة التي قررت فيها محو وحذف كل ما كتبته عن نفسك. لأنك ستستعيد فيها لحظات من حياتك كنت قد نسيتها.. لذلك أحتفظ بها في مكان ما من إرشيفي. إذا لم أكن قد قمت بنشرها.. والتفكير في النشر والقراء وردود أفعالهم في تصوري هو مستوىً ثانٍ يتلو مستوى التخلص من الكتابة لذاتك عن ذاتك بصفة الكتابة مرايا للروح والنفس، وسبورتك الخاصة التي تظل ملكك وحدك تمحو وتكتب ما تمليه عليك لحظتك الخاصة تلك. تجابهك مواقع التواصل بعبارات “فيم تفكر؟! أو “ما الذي يحدث؟!” غالبا ما أتصفح مواقع التواصل، ولا تستدرجني عباراتها تلك للكتابة!!!! فأعود لاستكمال قراءة كتابي الذي أقرأه وهو أثناء الشروع في هذه الكتابات كتاب المكان ل الروائية الفرنسية آني أرنو، التي تجسد خطا فنيا في الكتابة السردية المعتمدة على “الواقعية الصادمة” بجرأة شديدة في مكاشفاتها فهي تكتب كتبها منطلقة من وقائع مستلة من حياتها. كتاب “المكان” عبارة عن مذكرات شبه أسبوعية كانت تكتبها بعد زياراتها لأمها المقيمة بدار للمسنين. كتابات أرنو جدّ قاسية في حدة واقعيتها عامةً؛ لكنها في مذكراتها تدون كثيرا من التفاصيل التي قد لا يجرؤ عليها الكثير من الكتاب.. وذلك ما فعلته بتحييدها للعاطفة كثيرا في رصدها لتحولات أمها الجسدية والنفسية وعلاقتها بها منذ كانت طفلة وصولا إلى آخر ثلاث سنوات من عمر أمها. وليس المقصود هنا بتحييدها للعاطفة أن كتابتها لم تكن تخلو من المشاعر، فهي قد دونت لحظات فرح وبكاء واستحضار لذكريات ماضية؛ لكن حيادها هنا يكمن في تخلصها من عاطفة تأنيب الضمير كون من تكتب عنها هي أمها؛ وينبغي إظهارها في أفضل حال. غير أنها لم تفعل ذلك في عدد من التفاصيل بما في ذلك تصوير حالات العجز الإنساني “لكبر السن ومرض الزهايمر” في أوضاع تشريحية أقل ما يمكن أن توصف به أنها فضائحية عن مواقف مزرية “وذلك بفعل تحييد الكاتبة للمؤثر العاطفي فلم تقم بممارسة غض النظر والتجاوز عن كل ما يفترض أنه من المستحسن تأدبا أن يكون من المسكوت عنه، بل كانت كمن تكتب بعدسة كاميرا متعمدة تجاهل أنها بالنهاية تكتب عن “الأم”. لا تكاد تمضي صفحة دون أن أتذكر جدتي التي عاشت مثل تلك المرحلة التي رصدتها آني آرنو عن أمها. أعود بعد هذا الاستطراد عن كتاب المكان لآني أرنو إلى موضوعي الرئيسي وهو العنوان الذي وضعته لكتاباتي “الكتابة والقراءة بصفتهما جناحين” وكنت قد تحدثت عن بواعث ودوافع الكتابة لديّ وانتهيت إلى أني أكتب بالدرجة الأولى عن ذاتي للتنفيس عنها، وكيف يكون لهذه الكتابات قيمة فيما بعد؛ لأنها على أقل تقدير توثيق للحظات من عمري وحياتي. ومن أكثر هذه اللحظات متعة حينما أعود لقراءة ما كتبته، وبخاصة في اليوم التالي، لأني أكون قد خرجت من حالة التأثر بما كتبت وأعود لقراءته بشكل محايد تماما وكأني قارئ آخر. لذلك عندما ذكرت أن الكتابة والقراءة جناحان، فالمقصود بذلك النظر إليها من جهتين. الجهة الأولى أن تعامل نفسك بصفتك قارئك الأول فأنت الكاتب/القارئ. الجهة الثانية أن الكتابة/القراءة متلازمتان لدرجة كبيرة، من حيث الممارسة ولا يمكن فصلهما عن بعضهما بعض. فلا وجود لكتابة دون قراءة ولا وجود لقراءة من دون وجود كتابة. القراءة تفتح آفاق الكتابة وبخاصة حينما تكون القراءة حرة للمتعة وليست من نوع قراءة البحث والاستذكار. ولذلك أعدّ اليوم الذي يمرّ عليّ دون أن أقرأ قراءة حرة ولو صفحة واحدة بأنه يوم مهدر من عمري. عندما تقرأ ستجد حتما نقاط تواصل بين ما تقرأه وحياتك اليومية، على سبيل المثال لم تكن آني آرنو تكتب عن جدتي، بل عن أمها، لكني وجدت تفاصيل كثيرة فيما كتبته تتقاطع بشكل أو آخر عن حياة جدتي تقربني من فهم كثير من تصرفاتها وتعابيرها أكثر فأكثر. صحيح أني شعرت بالخجل ولم يرق لي تصوير أرنو بعض الحالات والأوضاع التي رصدتها بواقعية فوتوغرافية عن أمها لكني خرجت بفوائد وتقاطعات كثيرة من كتاب أرنو “المكان” الرواية التي كنت أقرأها قبل كتاب المكان كانت رواية “الكهف” للبرتغالي جوزيه ساراماجو على الرغم من طولها فهي تقع 470 صفحة على عكس معظم كتب آني آرنو التي لا تتجاوز في الغالب الـ 100 صفحة. وعلى الرغم من اختلاف أسلوب الكاتب الذي غالبا ما يضمن كتاباته مقاطع تحليلية يفلسف بها آراء أبطاله ومنظوراتهم “بما في ذلك فلسفة النظرة الكلبية” لتصرفات الإنسان!!! على الرغم من كل ذلك إلا أن الرواية كانت ممتعة لي في أيام العيد وخير رفيق مع أن شخصيات العمل محدودة فهي تقريبا ثلاث أو أربع شخصيات رئيسية إذا نظرنا للكلب بصفته إحدى الشخصيات المؤثرة والفاعلة في مسار أحداث وآراء أبطال العمل وهم “الأب عامل الفخار” وابنته وزوجها حارس الأمن في مركز المدينة وكلب العائلة. تتمحور بؤرة الصراع في الرواية بين القديم الآيل للزوال والانقراض “صناعة الفخار” بحكم المستجدات الحديثة المنتجات البلاستيكية. الصراع بين القرية الريف ومركز المدينة الذي يزحف على حساب تقويض الريف. مهنة وصناعة مضى عليها قرون تهددها مهن وصناعات وطرائق حياة جديدة.. وجدت نفسي في خضم هذه الصراعات بين القديم والجديد؛ وهي كثيمة موضوعاتية ليست بالجديدة في سياق موضوعات الأدب الحديث، وجدت نفسي منحازا لأحد طرفي الصراع وكيف سيعالج المؤلف ذلك الصراع وكيف سينهيه؟! هل ب الاستسلام؟! أم بالتشبث بالأمل، أم بالتمهيدات لكيفية التأقلم ومواكبة المستجدات. وجدت أشكالا من هذا الصراع مجسدة في حياتي وحياة أسلافي ومن بعدي. المزارعين والرعاة والحرفيين الذين هجروا حرفهم وتحولوا إلى موظفين في المدن؟! كل مناشط الحياة عرضة لذلك الصراع المتجدد.. فحتى ما كان جديدا في لحظة سيصبح قديما؛ وسيستجدّ الصراع نفسه بين مختلف الأطراف؟!!! حتى في الكتابة وأسلوبها الكتابة على الورق بالقلم والكتابة عبر التحول إلى الشاشات وفضاءات الشبكات ومواقع التواصل، الكتاب الاليكتروني والورقي. الأدب الرقمي المستجد، إصرار بعض الكتاب والأدباء على التمسك بعادات الكتابة كما عرفوها، كتابة بالقلم والأوراق. الصراع والاختلاف في نسق تفكير الأجيال داخل الأسرة الواحدة. من هنا يبدو التقاطع والتلازم بين الجناحين الكتابة والقراءة. فحتى أكثر حالات الكتابة المنطلقة من الذات سيجد فيها شرائح القراء حالات تتقاطع مع ذواتهم مهما اختلفت اللغات والبيئات والثقافات. —————————— *شاعر وناقد *هذا المقال في أصله مجموعة من الكتابات ضمن ورشة 100 يوم من الكتابة التي يشرف عليها الشاعر محمد الضبع.