قراءة في شعر الدكتور مطلق الحبردي..

شعرية جامعة بين انزياحات الواقع و الخيال.

تقاطع الواقع مع الخيال والحلم تشكيلة تمثل الظاهرة الرئيسة في الفن الأدبي بعامة؛ وكذلك والانزياح الذي يشكل مستويات في درجات سُلّم الشعرية التي لا توغل بالدلالة في فيافي الغموض، ولا تعرّي المعاني فتصيبها بالتسطّح و التقرير و المباشرة؛ بل تسعى بها حثيثا في موكبٍ جماليٍّ وهرولة متناغمة مع إيقاع الرؤيا ، لا تتشظّى و لاتتفتّت فترهق المتلقي في جمع أشتاتها و التأليف بينها، فالصورة الفنيّة تستمد ألوانها من تراث المخيّلة ومخزون الذاكرة وذخيرة المعرفة التي تحتشد في صُلب اللحظة الشعرية. وأهم ما يميز شعر الدكتور مطلق الحبردي: تَمثُّل الصورة الفنية لديه عبر المجاز والتناص وتقاطعها مع التراث في استلهاماته الجوهريّة وثوابته الدلالية وبيئته التي تتلاقى مع ثوابت المكان و مرّ الأزمان ؛ أما المجاز فيتلامح في تلك الصورة التي تتجاوز الممكن إلى ماوراءه في فانتازيا قريبة لا توغل في العجائبيّة التقليدية ؛بل تظلُّ في حدود التكنية البلاغية و الترميز القريب،والتشخيص الذي يهدم جدار التجريد و لا يوغل في التخييل البعيد : على تُخُومِ الهوى نبكي بلا مُقَلِ! من فَرْطِ ماحنَّت الصَّحراءُ للإبِلِ! مُهجَّرون إلى تِيهٍ،تقولُ لنا البيداءُ: موتوا عِطاشاً حينَ لم نَقُلِ! ويستثمر الشاعر الزمن في حراكه التاريخي ومخياله الكنائي ليعبّر عن الخذلان والنسيان و انحسار الأمل و دبيب اليأس في القلوب ، وعبر قاموسه اللغوي يعمد الشاعر إلى تخصيص الانتماء وتحديد الظواهر الطبيعية و الكونيّة التي تؤطّر الصورة الشعرية و تكسوها بالدلالة مستفيدةً من التوازي بين زمنين و المحكاة لثوابت الانتماء و تخصيص اللحظة التاريخية في تأزّمها و معضلاتها و وطأتها ، (الغيم والريح والسواقي) تضاريس البيئة و رموزها ومتكآت الخصوصية والانتماء و التجذّر الكوني و التأصيل الدلالي وغنائية التعبير و وجدانية الذات الشاعرة في خيبة الأمل وتردي المنتظر ، وعلى الرغم من نمطية الدلالة في موحيات لفظتي (الليل) و ( الصبح) فإن الشاعر عمد إلى استنقاذ الصورة من ابتذال التداول في تخصيص سياقها ، حيث (تتوه الخطى بين مشتاق و مقتبل) فهذه العبارة انتشلت الصورة من النمطية المعتادة ، وكذلك استثمار مفردة الملح في تمثيل المعنى الدال على المشقّة في صورة مبتكرة مستثمرا حمولتها الدلاليّة المتعددة في معناها الشائع قاموسياً و مجازياً, ثمة طاقة تعبيرية مدهشة لالتقاط فورة اللحظة الشعريّة وتدشينها عبر تشكيل المشهد المتخيل الذي يزاوج بين حرارة الشعور ومخزون الذاكرة، حيث المزاوجة بين المجرد والملموس في شريط يعتمد نهجاً انتقائياَ يلتقط اللحظة في عنفوان تجلّياتها وترجمتها إلى معادل تشكيلي يمتح من مصادر متعدّدة كما أشرت من قبل في ترتيب يستثمر ما عرف في أدبيات نقد الشعر بسرديّة الحكي وسينمائيّة المشهد في ترتيب مونتاجي بمعنى صياغة النمو المشهدي و تسلسله مع فارق مهم وهو خضوع هذه التقنية لتجلّيات الوعي و الشعور ، وليس لمتطلبات التشويق وسياقات البنية السردية لأننا أمام وقائع تتوارد إلى الخيال ويصوغها الوجدان وتندُّ عن الترتيب المنطقي بل تخضع لسلطان اللحظة وتقاليد الخطاب الشعري. متسربِلون بثوب الملحِ تَجلِدُنا أشعَّةُ الشَّمسِ تُدمي وجهَ مُرتحَلِ تُطَوِّحُ الرِّيحُ فينا كُلَّ مَهمَهةٍ تحت العَجاجِ،فلم نعجَبْ،ولم نَسَلِ! رواحلٌ ينتضيها الوهمُ في عَثَرٍ يُفضي إلى عَثَرٍ،يُفضي إلى مَلَلِ فالسرد الوصفي في الشعر له خصائصه المتميّزة التي تسعى إلى تشكيل صورة مرئيّة غير منتظمة في إطار زمني محدّد بل صفته الرئيسة التعاقب فحسب ، مواكب من الصور في شريط يتجاوز التقنية السيننمائية ومونتاجها إلى ما يشبه الاسترجاع في الحلم المتحرك ، حلم اليقظة الذي يغذيه الخيال في استرجاعه الزمني والتاريخي ، و مرجعيّاته القارة في الوجدان الجمعي والتخييل الذاتي ، والتمثيل الوجداني واستكشاف المآل في ظل برنامج التيه الذي خطّط له الوهم القائم على المفارقة بين السواد و البياض و الحلو و المر (الصاب و العسل) ولعل استلهام النص القرآني في سرديّة تمثيليّة مستوحاة من قصة يوسف سيدنا (عليه السلام) والتناص مع مفرداتها وتمثّلث وقائعها ما يثري هذه القصيدة ويخصبها ويمنحها ملامح شعريّة فيها حرارة الوجدان ومرارة الخيبة : تَبَرَّأََالذئبُ مما حِيكَ في غَدِنا، ومن دماءٍ على قُمصانِهِ الأُوَلِ! تلقَى إلى الجُبِّ في أقصى غَيَابتِهِ كيْما نظَلَّ ببُشرى الجُبِّ في شُغُلِ! فلم تمُرَّ بنا سَيَّارةٌ عبَرَت ولا تخاتَلَنا دلْوٌ من الأمَلِ! ولم يَلُحْ من قميص الشَّوقِ بارقةٌ يجري بها الحُلْمُ إلّا قُدَّ من قُبُلِ! تَبَرَّأََ الذئبُ مما حِيكَ في غَدِنا، ومن دماءٍ على قُمصانِهِ الأُوَلِ! استحضار لقصة يوسف (عليه السلام ) في تناصٍّ تمثيليٍّ رمزيٍّ ينطوي على مفارقة توازي بين الوقائع وتخالف بينها ، فهو يماثل بين ما حدث وما يحدث و يخالف في آن وهنا تتبدّى المفارقة ؛ ففي حين تكون واقعة الإلقاء في غيابة الجب في سورة يوسف (عليه السلام ) تنطوي على إكراهات الإرادة وسرّية الحدث وتدبيره الخفي يأتي النص الشعري وكأنه يقارب المسألة في وضوح وتمنٍّ لحادثة السيارة المنقذة واستثمار (الدلو) الذي أنقذه (عليه السلام) مصادفة في بؤرة الوعي وصميم الرغبة (بشرى الجب و دلو الأمل) وهنا تكمن المفارقة ، وحادثة القميص الذي قُدَّ من قُبل وكان سبباً في زوال الغشاوة و العمى عن عينيّ يعقوب (عليه السلام) في واقعتين متناقضتين وبراءة الذئب من الدم الكذب ؛ لقد استثمر الشاعر هذه الوقائع معبّراً عن خيبة الأمل وعن واقع اللحظة الشعرية في تمثيلٍ مفارق ، فيه انزياحات في سلّم الشعرية يلامس عمق الأزمة مستثمراً التناص مع النص القرآني في مستوياته المختلفة اللغويَّة (المفردات) و التاريخيَّة (الوقائع) والسرديَّة (القص)والدلاليَّة (الانتظار والأمل ) ومن جماليات النص التحليق في فضاءات التراث شعرا وتراثا وثقافة في التقاطات ذكيّة لعناصره الدلاليّة في إشارات خاطفة لا تكاد تبين، و في تفكيك رامز لعلائق الحوادث و النصوص، فنراه يومئ من طرف خفيٍّ إلى المعلقات في ذكره لحائط الحزن (حيث كانت تعلق على حائط الكعبة المشرّفة) وارتباطاته بملامح الغزل والرسوم الدارسة عبر مفردات (الحائط و الرسوم و الهوى والأطلال و الراحلة) وتقبيل الجدار في قول قيس بن الملوح: أمر على الديار ديار ليلى أقيبل ذا الجدار و ذا الجدار وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا وهكذا احتشدت القصيدة بذخيرة حيّة من جماليات التناص والاستلهام و الصور الكونية ذات الخصوصية الطبيعية بفضاءاتها الواسعة: الصحراء و البيداء و الغيم و المطر و الريح والسوافي والعجاج وأشعة الشمس ومعاناة الشقاء و مقاساة الارتحال ،ومكابدة وغياب الأمل ،وافتقاد الحب و غياب الأحبة ،و اليأس من الخلاص و استنقاذ الأمل ، و الكائنات التراثية الإبل وحنينها ،والأجواء العابقة بأريج التراث ومناخات البيئة وأجواء الطبيعة وتضاريس البلاد وحياة العباد، و الموازاة بين مطلقات الوجود وخصوصيات الحياة ورموز المعاناة وصور المكابدة ، منذ العنوان الذي يحيل إلى (ملح الدموع) و مدن الملح (رواية عبد الرحمن منيف المتعددة الأجزاء) وما توحي به و تحيل إليه من أجواء رموزاً وتراثاً, وعلى هذا النحو من المكابدة يمضي في بعض قصائده : من بؤرة الهم ما تصلى به الكبد علمي بها من دم أنى له الجلد حيث تطغى حقول المفردات التي تصب في جداول الألم و القهر في نهج يعمد فيه إلى تجسيد المشاعر و التقاط أثرها على الحواس و الجوارح وعبر البوح الصريح و مفردات الألم ومعجم المعاناة ، والمحسوس و الملموس لونا وحركة وصفا و بوحا : أوجاعنا لم تزل في الدرب هاطلة و غصننا باخضرار الغصن منفرد وتحتل هذه المقطوعات في تغريداته الشعرية حيزا واسعا ؛ وإلى جانب ذلك ثمة نزوع إلى التغنّي بالجمال و الاحتفاء بالحسن الأنثويّ في قاموس صوفيٍّ يحلّق عبره في أجواء روحية يتقاطع فيها الشعر مع شطحات الروح وإشراقات الوجد والفناء فيه وقبسات من معجمه وفيض التحليق في فضاءاته ،والموازاة بين جماليات الشعر ومحاسن الأنوثة ومفاتتها: تتفردين عن النساء بخصلة كتفردي في عالم الشعراء أنت الجمال حقيقة و تصوفا وأنا المريد لجوهر الأشياء الهائمون بحسن وجهك لم يروا إلا سوانح فيضه المترائي فثمة نزوع نحو فلسفة التصوّف التي تنداح حول قاموسه : الجوهر و العرض والحقيقة في مقابل الشريعة و الفيض و الإشراق والفناء و القطب و الوصول والكشف و الحلول ؛ فهذه المفردات مادة التشكيل في رؤيته للجمال و الجلال و السوانح و الهيام مزيج من الوجد الصوفي والهيام العاطفي : عالمان متقاطعان في حقل واحد عالم الروح وعالم الأنثى يجمع بينهما جمال الأشياء و الأحياء و التحليق في عوالم مُترائية بين الحقيقة و الخيال في صناعة شعريّة لها فلكُها الخاص الذي تدور فيه وتهيم في فضائه كشفاً للغطاء عن فيض غامر وسحر أخّاذ: حلت بهذا القلب كشف جهاته حتى رأيت من الأمام ورائي وكذلك في قصيدته ( العائد من حربه) التي يستهلها بقوله : هيا اسكبي لي قهوة من مقلتيك وحركيني سُكّرا لأذوبا وهي تذكرني بما ذهب إليه صلاح فضل رحمه الله في كتابه عن أساليب الشعرية العربية الذي تحدث فيه عن الاتجاه الحسّي في الشعر العربي ،حيث الاتكاء على اللغة الفوريّة (الاستعمال اليومي) في تشكيل قصائده ؛ وما ذهب إليه العقاد قبل نزار قباني في هذا الاتجاه وكذلك صلاح عبد الصبور “ ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش/ فشربت شايا في الطريق/ ورتقت نعلي ، فالقهوة و (الجاي) حيث يمزج شاعرنا بين الأشياء والعواطف ؛ الكعكة والفستق و الحليب مدار الخواطر،وتمايل الأغصان قرين وجيب القلوب ؛ ليس هذا فحسب ؛ بل إن الشاعر يستحضر الأغنيات و القلائد وحكايات الحب و المجرّات و الطيوب ؛ هذا المزيج المتعدّد قوام شعريّة جديدة تجمع بين الغنائيّة و الحسيّة و المعنويّة و المشاعر و نبض الأشياء و الأحياء والتراث العذري والمجرّات و النجوم : “كوني لقيس ألف ليلى / متعيه بحسن وجهك/ مرة ليتوبا / ولكي يساعد في اكتشاف/ مجرة أخرى/ ويبتكر النجوم دروبا.” كثيرة هي الخصائص التي تميز بها شعر الشاعر ولا يتسع المقام للوفاء بحقها ؛ ولعلها تكون حقلا واسعا للباحثين و النقاد.