دوامة الصمت.. والأرواح النورانية.
“دوامة الصمت” ظاهرة سلبية تضرب أطنابها حول بعض المجتمعات التي ترزح تحت أغلال المفاهيم الاجتماعية المترهلة، كما أنها حالة نفسية تتلبس الأفراد الذين يشعرون بعدم القدرة على التعبير عن آرائهم، تجاه تلك المفاهيم تلافيًا للانتقادات العشوائية المتسرعة، وخشية من العواقب الاجتماعية غير المنضبطة. ظهر مفهوم “دوامة الصمت” لأول مرة في عام 1974م على لسان عالمة السياسة الألمانية “إليزابيث نويل نيومان 1916م -2010م” التي أماطت اللثام عن هذه المتلازمة. فقد رأت (أن وسائل الإعلام تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام، وأن بعض الأفراد يميلون إلى إخفاء آرائهم إذا كانوا يعتقدون أن تلك الآراء غير متوافقة مع الرأي السائد، مما يؤدي إلى اتساع دائرة الصمت حول قضايا مهمة). بعد ذلك، تمت دراسة “دوامة الصمت” في سياقات متعددة، من خلال الإرث الديني الموهوم، والمخيال الشعبي السائد، والعادات والتقاليد المتخشبة، وغيرها من المواضيع الأخرى التي تثير الجدل على نطاق واسع. “القياسات السوسيومترية” المهتمة بمعرفة وفهم طبيعة العلاقات الاجتماعية بين أفراد الجماعة بطريقة موضوعية، أبانت أن “دوامة الصمت” يمكن أن تُرْبِك الإرادات الفردية النابهة، وتشل التطورات الجماعية الطبيعية على حدٍ سواء، مما يعوق التغيير نحو الأفضل، ويعزز الوضع السائد. كما دعمت هذه القياسات وجاهة تصنيف “دوامة الصمت” كمتلازمة تشير إلى مجموعة من الأعراض والسلوكيات التي تحدث بشكل متزامن، مثل مشاعر القلق والخوف من الانتقاد أو التسفيه، مما يؤدي إلى تجنب التعبير عن الآراء، وتعزيز القناعات السائدة – هذا من جهة - ومن جهة أخرى يتسبب بإقصاء وجهات النظر المخالفة، مما يعوق الحوار المفتوح ويعزز الانقسام الفكري. ويرسخ الانفصام المجتمعي، وبالتالي يتجه نحو التأثير على الديناميات الاجتماعية ويسهم بإعاقة التطور الثقافي. نعود القهقرى إلى الدراسات التي أجرتها “إليزابيث نويل نيومان” ونرى كيف درست تأثير وسائل الإعلام على الآراء العامة، وكيف يمكن أن تؤدي سطوة التفكير الأحادي إلى إضعاف قدرة الأفراد على التعبيرعن آرائهم الفارقة. كما أكدت هذه العالمة (ميل الأفراد إلى التزام الصمت عندما يشعرون أن آراءهم غير متوافقة مع الرأي السائد، مما يعزز من “دوامة الصمت”). وخلاصة القول إن الدراسات العلمية تؤكد وجود متلازمة “دوامة الصمت” كظاهرة تُعتبر مهمة لفهم كيفية تَشَكُّل الرأي العام حول مواضيع مهمة، وقضايا حساسة. في كل مجتمع يوجد أشخاص يتمتعون بلياقة ذهنية عالية، فلا ينزلقون في “دوامة الصمت” يحومون حول حياضها، ولا يقعون فيها، ولديهم الجرأة الكافية للتعبير عن آرائهم الثقافية بكل وضوح، والبوح بقناعاتهم الفكرية بكل شجاعة، مما يساعدهم على إلهام الآخرين وتحفيزهم على التحدث عما يعتلج في صدورهم من قناعات كامنة. وبالرغم من قلة أعداد هذه الفئة، مقارنة بأعداد المزايدين لكسب الرضا الجماهيري، إلا أنهم في الغالب الأعم هم الذين يقودون حركات التغيير الثقافي. وإحداث تأثيرات إيجابية في المجتمع. وهذه الشخصيات تشترك في عدة صفات بارزة، منها الشجاعة والجرأة في مواجهة الأعراف الاجتماعية المستحكمة، ومقارعة الثقافات الماضوية الآسنة، استخدموا كلماتهم المعبرة، وأفكارهم المقنعة بشكل فَعَّال لنشر رسالتهم، سواء من خلال الكتابة أو الخطابة أو الفنون. مما جعل رسالتهم أكثر تأثيرًا، وأشد مضاءً، وقد ترك هؤلاء الأفراد شامات ناصعة البياض في جبين التاريخ البشري، وأقامت شواهد حية على مسار التغيير الاجتماعي. بكل تأكيد أن الشخصيات التي تحدت وتتحدى “دوامة الصمت” بغية إيصال رسالتها السامية تواجه العديد من التحديات والمصاعب، من أبسط أشكالها التمييز الثقافي، ومن أعتى صنوفها الإقصاء الاجتماعي. لكن “الله تعالى” منح أولئك الأفذاذ أرواحًا نورانية تمتص الكراهية وتنشر المحبة، كالأشجار الخضراء التي تمتص ثاني أكسيد الكربون الخانق، وتنثر غاز الأوكسجين النافع الذي هو المُقَوِّم الأساس للحياة. تتهمهم طبقة الرعاع بالتطرف الثقافي، ويرميهم أشباه المثقفين بالشطط الفكري، ناسين أن الحِدَّة في التفكير هي شرط أساسي لتحدي “دوامة الصمت” فلو لم يكونوا حادين لما تمكنوا من تقطيع أوصال الأوهام المهترئة.