إنقاذ النفوذ الأمريكي:

أحلام تصطدم بواقع متغير.

إن القوي لا يمكن أن يكون قويًا بما يكفي ليظل هو السيد دائمًا، إلا إذا حول قوته إلى حق. - جان جاك روسو - العقد الاجتماعي 1762 ------ بعد أن حقق دونالد ترامب فوزاً ساحقاً في الانتخابات الرئاسية الأمريكية على منافسته كامالا هاريس، انتاب العالم شعور بالترقب والانتظار. ففي هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المعاصر، علّق الكثيرون آمالاً عريضة على فترة رئاسية جديدة لترامب، متوقعين منه اتخاذ خطوات جادة نحو إرساء السلام والاستقرار العالمي وإنهاء الصراعات والحروب الدائرة. إن هذا الأمل يعكس إيماناً عميقاً بالدور الأمريكي الريادي في الشؤون الدولية، وبقدرة الولايات المتحدة على حل المشكلات العالمية المعقدة. إلا أن هذا الإيمان والآمال قد يغفل حقيقة أساسية مفادها أن السياسة مرتبطة بالواقع الملموس، وأن تحقيق التغيير الإيجابي يتطلب وجود القدرة والموارد أكثر من مجرد الإرادة. فالسياسة الخارجية تتشكل تحت تأثير عوامل متعددة، مثل الموارد الاقتصادية والعسكرية، والضغوط الداخلية، والتوازنات الدولية. وبالتالي، يبقى السؤال الجوهري: هل تشهد الهيمنة الأمريكية تراجعًا متسارعاً؟ يشهد العالم اليوم مرحلة متسارعة من الصراعات والحروب المعقدة التي تتوزع بين نزاعات إقليمية ودولية، حيث تتداخل العوامل الجيوسياسية، الاقتصادية، والاجتماعية لتغذي بيئة من الاضطراب المستمر. إن الحرب الروسية-الأوكرانية، على سبيل المثال، لم تقتصر على كونها نزاعًا إقليميًا، بل أصبحت محط اهتمام عالمي، مما يثير تساؤلات حول مستقبل الهيمنة الأمريكية. كما أن الصراعات في منطقتنا، وعلى رأسها العدوان الصهيوني ومحاولاته التوسعية، تعكس انقسامًا حادًا بين القوى الكبرى، وتشير إلى تراجع الهيمنة الأمريكية. يقول جون كيري في مقابلة أجريت معه عام 2013 في مجلة The Atlantic “إننا نعيش في عالم أشبه بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر”. وهو بذلك يشير إلى أن النظام الدولي المعاصر يشهد تحولًا شبيهًا بالفترة التي شهدت تنافسًا شديدًا بين القوى. ففي ظل عالم متعدد الأقطاب يشتد التنافس بين القوى العظمى على النفوذ، مما يزيد من احتمالية نشوب المزيد من الصراعات، الكبيرة والصغيرة. في تصريح سابق لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسن في ليلة الغزو الروسي لأوكرانيا يقول: “ إن الولايات المتحدة وحلفاءها لم يفعلوا ما يكفي لردع فاعل غير عقلاني”. وقال أندرس فوغ راسموسن، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، في تصريح سابق له في أوائل 2024 عن تراجع الهيمنة الأمريكية: “إن الأحداث العالمية الأخيرة في مضيق تايوان، وفي الشرق الأوسط، وفي أوكرانيا، كلها نتائج للتردد الأميركي في القيادة فعلياً”. ووصف انتشار مناطق اشتعال الصراعات حول العالم بأنه ناجم عن فشل الولايات المتحدة في التعامل معها. وبعبارة أخرى، فإن الهجوم الذي يتعرض له السلام العالمي بسبب تزايد الصراعات يحدث في وقت يشهد فيه النظام الدولي تغيرات كبيرة. ويبدو أن السلام الأمريكي بشكل أو بآخر بدأ يشهد تفككه، ولم يعد كما كان قبل عشر سنوات، بحيث لم تعد الولايات المتحدة قادرة على لعب دور شرطي العالم، وهو الوضع الذي لن يستوعبه من علقوا الآمال على ترمب. لقد غيّبت الأحداث المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم عن الأنظار دلائل تراجع الهيمنة الأمريكية. فالنظام الدولي آخذ في التغير، حيث يشهد بروز نظام متعدد الأقطاب وصعود قوى ناشئة كالصين والهند وروسيا فضلاً عن التحديات التي تنتج عن الدول الفاشلة والهشة، ولم يعد النظام الدولي أحادي القطب كما كان سابقًا، بحيث يسمح للولايات المتحدة بتوجيه مسار الأحداث العالمية بما يحقق مصالحها، كما حدث في حربي أفغانستان والعراق على وجه الخصوص اللتين عارضهما المجتمع الدولي ومؤسساته. وفي هذا السياق، يبدو أن النظام الدولي قد شهد تحولات جوهرية تمثلت في: الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان، والغزو الروسي لأوكرانيا، وحرب الإبادة في غزة. وهو ما يختلف كثيراً إذا ما قورن بدور الولايات المتحدة قبل عقدين من الزمان، عندما غزت العراق وأفغانستان. ولذلك، فإن ما كان يعتبر في السابق دليلاً على القوة المهيمنة الأمريكية أصبح الآن يؤشر إلى تراجع واضح لتلك الهيمنة وصعوبة فرض إرادة قوة واحدة على الساحة الدولية. لقد أثار الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان في عام 2021 تساؤلات جوهرية حول استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة والعالم. فبالإضافة إلى الآثار الإنسانية والسياسية المباشرة، فإن هذا الانسحاب قد أرسل إشارات متضاربة إلى أصدقاء الولايات المتحدة وأعدائها على حد سواء. حيث شجع انسحابها من أفغانستان روسيا على اختبار حدود النظام الدولي وتقييم مدى استعداد الغرب للدفاع عن مصالحه، الأمر الذي ساهم في دفعها لغزو أوكرانيا. وأيضاً أدى ترددها في مواجهة الغزو الروسي واتخاذ إجراءات حاسمة لوقف العنف في غزة إلى تآكل ملموس في صورتها كقوة عظمى وفقدان مصداقيتها لدى العديد من الدول التي كانت تعتبر الولايات المتحدة القوة المهيمنة عالميًا. وعلى ذلك، فإن هذه الأحداث المتسلسلة عكست تراجع الهيمنة الأمريكية والتحولات العميقة في النظام الدولي. ولا شك أن القاعدة المادية للقوة العالمية للولايات المتحدة تتعرض لضغوط شديدة. ومما يشير إلى تضعضع دور الولايات المتحدة أنها اضطرت إلى عقد صفقة الغواصات النووية، أو ما يُعرف بـتحالف “أوكوس”، بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وذلك بسبب التحديات البنيوية التي تواجهها. ويعكس هذا التحالف عمق الضغوط التي تواجهها الولايات المتحدة في الحفاظ على موقعها المهيمن في النظام الدولي. ومن جانب آخر، فقد تراجعت فعالية العقوبات الاقتصادية كأداة للضغط الدولي، بحيث إنها لم تعد قادرة على إحداث التغيير المطلوب في سلوك الدول، وليس أدل على ذلك من قدرة روسيا على تجاوز العقوبات المفروضة عليها، من خلال إيجاد أسواق بديلة لصادراتها من النفط والسلاح. وهذا ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى التكيف مع التغير الذي يشهده النظام الدولي؛ فبدلاً من الغطرسة التي كانت تمارسها يلاحظ أنها قد أصبحت مجبرة على استجداء حلفائها أو الضغط عليهم لبذل جهود أكبر وإشراكهم في مواجهة التهديدات التي تهدد نفوذها المتبقي، وبالتالي تحولت من كونها مهيمنة إلى قائدة. ويشار هنا إلى أن فكرة إشراك الحلفاء قد طُرحت منذ لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي وبدا واضحاً ما يعرف بالهيمنة الأمريكية والعالم الجديد، ويبرز المقال الشهير لكينيث ووالتز منظر العلاقات الدولية المعنون بـ “الواقعية البنيوية بعد الحرب الباردة” يقول ووالتز : “إن الولايات المتحدة، بوصفها القوة المهيمنة في النظام الدولي بعد الحرب الباردة، يجب أن تتبنى نهجًا أكثر واقعية تجاه حلفائها وشركائها”. ويضيف أيضاً: “ أنه ينبغي للولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى الوحيدة المتبقية، اتباع سياسة تتسم بـ”التسامح، وليس العزلة التي أصبحت مستحيلة”، بما يتيح للدول الأخرى أخيرًا فرصة التعامل مع مشكلاتها الخاصة وارتكاب أخطائها.” وبالتالي، فإن التسامح مع الشركاء ليس مسألة أخلاقية بقدر ما هو استراتيجية براغماتية للحفاظ على النفوذ والقيادة في نظام دولي متغير، وهو ما لم تفعله الولايات المتحدة إلا بعدما اضطرت لذلك بعدما تراجعت هيمنتها. وفي الفترة الحالية التي تشهد تراجع الهيمنة الأمريكية، يقول جوزيف ناي، مُنظّر القوة الناعمة، في كتابه الصادر عام 2017: هل انتهى القرن الأمريكي؟ “إن القيادة ليست مثل الهيمنة. إن أميركا ستحتاج إلى الإصغاء إلى الآخرين إذا أرادت إقناعهم بالمشاركة فيما وصفته وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بـ”عالم متعدد الشركاء.” وهذا تحول جذري نتيجة لحدود القوة التي فُرضت على الولايات المتحدة. فالانتقال من الهيمنة إلى القيادة يعني دخول شركاء آخرين وحلفاء في توجيه مسار السياسة الدولية، وهو الوضع الذي يعكس بشكل واضح وجلي تراجع الهيمنة الأمريكية والإخفاقات الخارجية وبداية مرحلة الانكفاء والانعزال، وهو ما يقوم به ترمب من الترويج لـشعار MAGA اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى والعودة إلى الداخل للتعامل مع التحديات الداخلية. لقد أدت الانقسامات الحادة داخل المجتمع الأمريكي، والتي تفاقمت بسبب سلسلة من الأحداث الاستثنائية، من اضطرابات سياسية واجتماعية وكوارث طبيعية، إلى إضعاف قدرة الولايات المتحدة على القيام بدور قيادي فعال على الساحة الدولية. فقد دفعت هذه التحديات الداخلية الإدارة الأمريكية إلى تبني توجهات أكثر انعزالية، حيث باتت أولويات السياسة الداخلية تحتل مكانة متقدمة على حساب الالتزامات الخارجية. ونتيجة لهذه التحديات الأخيرة، فقد أصبحت الولايات المتحدة رابع أكثر دولة تدهورا في مؤشر الدول الهشة لعام 2018، وهو تقرير سنوي يصدره صندوق السلام بالتعاون مع مجلة فورين بوليسي، ويُعد أداة تحليلية تهدف إلى تقييم هشاشة الدول من خلال تحليل مجموعة من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فعلى سبيل المثال، تعد الولايات المتحدة الدولة الأكثر تدهورا في العالم على مدى السنوات الخمس الماضية لمجموعة من المؤشرات الثلاثة للتماسك، والتي تشمل جهاز الأمن، والنخب المنقسمة، ومؤشرات المظالم الجماعية (كما أنها ثاني أكثر الدول تدهورًا خلال نفس الفترة فيما يتعلق بالمؤشر الأخير تحديدًا). ومن حيث معدل التغير، يضع هذا التدهور الولايات المتحدة في فئة مشابهة لبعض الدول التي تعاني من النزاعات، وأخرى (مثل بولندا وتركيا) التي تشهد تصاعدًا في النزعات غير الليبرالية أو الاستبدادية. وهذا التطور يمثل تحديًا وجوديًا للهوية الأمريكية التي ارتبطت تاريخيًا بمفهوم “أرض الحرية”، مما يستدعي إعادة تقييم عميقة للسياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. وبعد مرور ثلاثين عامًا من المطالبة بمشاركة الحلفاء “على سبيل الرفاهية الاستراتيجية”، بحسب ما قاله والتز، نلاحظ أن تردد الولايات المتحدة في تولي زمام الأمور في النظام الدولي ليس مسألة افتقار إلى الإرادة، بقدر ما هو افتقار إلى القدرة والموارد. فهي ليست في الوضع الذي يسمح لها بمراقبة العالم والاضطلاع بدور الركيزة الأساسية للنظام العالمي، كما كانت عندما كتب والتز مقالته. فلم يعد التسامح خيارًا، بل أصبح ضرورة، مما يعني أن أصحاب المصلحة الآخرين سيضطرون إلى التدخل وتحمل العبء. وهذا نتيجة لما لم تدركه الولايات المتحدة: حدود قوتها وتجاهلها في لحظة هيمنتها، للجهود المضادة التي تبذلها بقية دول العالم كرد فعل تجاه هيمنتها العالمية. وهذا ما حذر منه ستيفن والت في كتابه “ترويض القوة الأمريكية: الاستجابة العالمية لهيمنة الولايات المتحدة” الصادر عام 2005. عندما تساءل: “ما الذي ستكون عليه خيارات الولايات المتحدة المستقبلية؟ هل ستجذب الآخرين إليها، أم تدفعهم إلى الاستياء الشديد، أو تستفزهم إلى المقاومة العلنية؟”. ويضيف والت: “إن الولايات المتحدة تستطيع أن تستخدم قوتها وثروتها لإرغام الآخرين على فعل ما تريده، ولكن هذه الاستراتيجية سوف تفشل بالتأكيد في الأمد البعيد. وفي أغلب الظروف، لا يكمن المفتاح في القوة، بل في الإقناع”. ودق والت ناقوس الخطر بقوله: “وإذا انتهى الأمر بالولايات المتحدة إلى تسريع انهيار شراكاتها القائمة وإفساح المجال لظهور ترتيبات دولية جديدة تهدف أساسًا إلى احتوائها، فلن نلوم حينها إلا أنفسنا”. وكأنه بذلك يصف بدقة الوضع الحالي للهيمنة الأمريكية. وأخيراً، فإن الآمال المعلقة على أن ترامب سيعيد “القرن الأميركي” الذي صاغه هنري لوس(1) هي ضرب من الجنون وأمنيات بعيدة المنال، فـ”الشق أكبر من الرقعة.” -------- (1)هنري لويس، الصحفي والمفكر الأمريكي، هو الذي صاغ مصطلح “القرن الأمريكي” في عام 1941، حيث كان يشير إلى أن القرن العشرين سيكون قرنًا تهيمن فيه الولايات المتحدة على الشؤون العالمية. كان لويس يعتقد أن الولايات المتحدة، بفضل قوتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ستكون القوة الرئيسية في النظام الدولي، وأنها ستلعب دورًا محوريًا في تشكيل النظام العالمي وتوجيهه.