قراءة في ديوان الشاعر صالح الحربي (أسماء وحرقة الأسئلة)
بين أصداء السيرة ووهج اللحظة وفضاءات الحلم
الديوان الأول للشاعر يحدّد – في الغالب – القسمات الرئيسة لهُويّته الفنيّة (رؤىً و جماليات) لذا يكتسب أهميته في تحديد المسار ، ويحتلّ مكانة خاصّة بسبب كونها مؤثرة في نتاجاته اللّاحقة ، وقد لمست هذا لدى الشاعر صالح الحربي ؛ لذا رأيت أن الرجوع إليه مفيد في استكشاف النّبع الذي انتهل منه في دواوينه اللّاحقة. يضم الديوان مايزيد على خمسين نصّاً، تبدو في مجملها أقرب إلى أن تكون دفقات أو ومضات شعريّة تصدر عن وجدان متوهّج وخيال مجنّح وفكر حاضر في لحظات مفعمة. ويبدو أن من الممكن تصنيفها في مجموعات: الأولى تندرج في إطار الرؤى التي تنبثق من المواقف المؤثّرة ، وتضم القصائد السابقة للقصيدة الرئيسة التي تحمل عنوان الديوان (أسماء وحرقة الأسئلة) و الثانية وهي جوهر الديوان ولب اللّباب فيه وهي التي تحمل عناوينها أسماء محدّدة ترتبط وجدانياًّ و نفسيّاً بالذات الشاعرة وهي أسماء أعلام لنساء يبلغ عددها حوالي ثماني عشرة قصيدة. أما الجزء الثالث فهي كلمات مفردة (أسماء معانٍ) و (أسماء ذوات) تعبر عن أحداث أو مواقف. ولعل افتتاحه الديوان ب ( مقولة لأدونيس) واختتامه بأخرى له تؤشر إلى المنحى الرؤيوي و الجمالي الذي انتهجه فيه، ونلاحظ في الأولى ملمحين: ابتداء كل جملة بالسين التي تعبر عن المستقبل القريب ، ثم احتفاؤها ب(الرؤيا) أو ما أسماه منير العكش في كتابه (أسئلة الشعر) الحلم المتحرك ، فالمستقبل يحمل في أفقه القادم حلم الشاعر ورؤاه مجترحاً سبيلاً مغايراً ، حداثيّ النزعة ، بعيد المرمى (صراع و مكابدة و إبداع) وفي الثانية إشارة إلى مزيد من الضوء لفضّ مغاليق الحياة ( تحتاج لكي تقرأ نفسك إلى الهبوط في الضوء وتحتاج إلى الصعود فيه لكي تقرأ الآخرين) يعمل الشاعر مخياله ليقدم صوراً جديدة يستنبتها من جوف اللحظة متناميةً حتى النهاية توهّجاً و ذبولاً : مسار في جوف العتمة ثم سقوط : رؤية يائسة بائسة ، وتلك البداية التي تحدّد فضاءها في هذا الجزء من الديوان : ينبت في القلب غصن اخضر يتفرع ............... حتى يصل إلى راحتيك ثم يذبل سلسلة من الصور تتحرّك في حيّز محدود ينتهي إلى أحد المصائر الثلاثة: المعروفة الذبول أو الموت ، أو الحلم في حركته الدؤوب وامتياحه من سراديب الداخل و أغواره العميقة تبدو معادلاً نفسياً و وجدانياً لّلحظة الشعريّة ، بوحاً صريحاً ، وتبدو العناوين مؤشرا في بنيتها الإفرادية و الصرفية المختزلة وإيحاءاتها الدلالية المحتشدة بالمعنى ، وكأن الصورة ترجمة أو تعريفاً ، تتقافز عبر التشكيل البصري في حركية لافتة ، فهي مصادر مطلقة الدلالة ، رشيقة وكأنها منتزعة من سياق حياة مكتظة تلاحقها الكلمات لتقتنص من سردّيتها المحكمة قصة وجود ، وحكاية حياة عبر التقاط مركّز لمشهديات منتزعة من متن السيرة وحواشيها في معادلات تقوم على مقدمات وتنتهي إلى نتائج ، فتنتقل من البداية إلى النهاية دون تلبّث عند النسق الأوسط ، فمن العتبة إلى البوّابة مباشرة : ففي (راية) تبدأ اللقطة بالبحث وتنتهي بالعثور البائس و الخيبة المريرة ، وكذلك في (معاناة) البحث، ثم العثور ، فمن حوافّ الطرقات إلى سواد الليل ، وكذلك الأمر في (كتابة ) من الخبر إلى (البتر إلى السقوط) وهكذا ومضات شعرية مختزلة لمشاهد مفعمة بالحركة بلا تفاصيل ، ويحتل ضمير المتكلم (الأنا) بؤرة الفعل ، فهو دينامو الحركة ، نهج شعري يلتقط شظايا سيرية النهج مفعمة بحسٍّ كوني و نَفَس فلسفي ، وأسئلة وجودية : “أي ليل / هذاالذي/ يحتويني / في أحشائه/ ثم / يلفظني / كفأر أجرب “ بوح يتكئ على لغة رشيقة مُثخنة بالرؤيا ، مثقلة بالمعنى ، ضنينة بالتفاصيل ، تقفز من نافذة الشعر لتبحث عن جوهر الفكر مضحّية بالإيقاع متجرِّدة من انتمائها إلى اللغة باحثة عما هو أكثر قدرة على التقاط الحلم المتحرك أحياناً لتمسك بحوافّ الرؤيا : “أغتسل / من لغتي لغة تتبرأ/ من ضادها / لغة تتساط أحرفها / حرفا/ حرفا كلمة / كلمة” وفي موقع آخر تصبح اللغة شهقة اندهاش ومرآة انبعاث حيث التيمّم باللغة ونقضه بما تتكشف عنه بلاغتا المبهرة . استدعاء للمصائر واحتساب للأقدار والأزمان، وتناصّ مع معجم قرآني كريم تفاعلا وتمثّلاً واستثمـــاراً (العروة الوثقى وأناشيد الطهر والتقوى) وحمّالــة الحطـــب عنواناً واستلهاما لنص من أطول النصوص في الديوان نسبياً ، مدارها الاحتراق في تشكيل خارج عن مألوف الصور ، يقترب من سوريالية تعبيريّة يمتزج فيها الرمز مع الواعي مع الامتياح من لاوعي مقصود في مشاهد متسلسلة تتمازج فيها رؤى الولادة والحياة والموت . أما ثلاثية الحزن المؤرخة فتردنا إلى أصداء السيرة وحالات الذات تنقّلاً بين إيحاءات الصورة المنحوتة في جوف الطبيعة (الجاردينيا) إلى صوت يحطّم مسافات الزمن وزنزانة الوجود، تتعاقب فيه مدارات الذات وظواهر الكون وتختلط المشاهد والصور . وفي (سيرة ذاتية) يتقمّص الشاعر شخصية الآخر الواصف المتحدّث بصفات غيره بوعي تام للصفات، وفي هندسة تعبيرية متقنة، يستعيض بها عن افتقاد الإيقاع الوزني . وفي الجزء الثاني الجوهري الذي حمل عنوان الديوان تتقاطر اللأسماء التي يلاحظ أنها ذات معان دالّة : (وفاء) في قابل الخيانة التي عبر عنها الشاعر بوصفها علّة حزنه وسبب قهره ، و(وضحى) وإن كانت اسماً علما له وجوده في حياة الشاعر ولكنه يحمل معاني وصفات مشتقّة من بنيته اللغوية (شعاع يخترق ثقوب السنين) و(سارا) الاسم الغني بالعاني المنبثقة منه سروراً وسيرورة (أدرك سير وجع الياسمينة) ومريم الاس السماوي الحافل بشعاع قدسي ( الذي يعانق كف السماء فيداعب الغيوم و يناجي المطر) و(منى) وهو اسم احتفالي ،(ولكنه ظل يتلاشى يتلاشى/ يتلاشى) فيتعالق مع ثلاثية الحزن (90/91/93) و(رحاب) حيث السعة والانفراج (فلم أر إلا الجنائز خارجة) و(سلمى) التي سلمت من الفقد والغياب (فلم تبق / إلا كلمة / هي أنت / هي أنت ) ولعلها القصيدة. و(خلود) البقاء و(حكيمة) الحكمة الضوء الذي يثقب القلب، و(لبنى) انتظار المخاض والفرج الآتي ، وهكذا جميلة وليلى وهيفاء وأمل وسامية وكاثرين وسلوى، كلها محطات في حياة الذات الشاعرة تستذكرها فتورثها حزناً مقيماً وأسئلة لاتنتهي نماذج إنسانية أنثوية تكاد تستغرق كل أشكال التجلّيات الأنثوية التي تنتقل من الخاص إلى العام لتتشكل رؤياه في سماء الشعر . أما الجزء الأخير فهو يتشكّل وفق رؤى فلسفية منتزعة من مواقف شتى وخواطر مختلفة ذات عناوين مكوّنة من مفردات مشعة دالّة، أما القصيدة بعنوان (الحياة) فتحمل فكرة أن الحياة ساعة، و(خارطة) تعبر عن رؤيته المتشائمة للعالم العربي ، “غيوم سوداء ويؤسمها بخيوط مهترئة وإبرة عاشرها الصدأ “، وثمة قصائد تقع على تخوم القصة القصيرة جداً، فعناوين ، مثل (العوضية ) تحمل اسم قرية الشاعر و (مقهى) أشبه باللقطة الحوارية، ومثلها (تصريح) و(تحالف) غموض تبدّده أضواء ساطعة تنبعث من عمق الكلمات وسياق التراكيب واتساق الرموز وسرديات متماسكة وحوارات مضيئة، بين الرؤى والوجدان وتشكّل الصور و المشاهد تبزغ إيقاعات خفيّة تستدني شعرية القصيد.