الفنانة سيما باقي؛ تدخل عوامل كثيرة في الفن، الفلسفة والتصوف وحب الألوان، تحب وتحاور وتصمت أحيانا، اللون واللوحة وسيلتها لعبور النهر والرحلة نحو التحديات الكبرى، اللون عندها وسيلة احتجاج، وحلم وصوت يعبر عن مخزون جلبته من ازمان بعيدة من أجل سلام داخلي يطول عبر الزمن. الحب مصدر إلهام وطاقة إيجابية تدعم به فنها وحياتها كما تعتني بالتفاصيل الصغيرة كالمطر، شاركت في مهرجانات فنية عديدة محليا في البحرين والدول العربية، نحن هنا نحاورها للكشف عن تصوف لوحتها وجمال فنها فشاركونا متعة هذا الحوار. * المتعمق في اعمالك يجد ان ألوانك تلبست إبن الفارض وغرقت معه حتى صعب على المتلقي ان يقول: سيما الفنانة ام سيما المتصوفة؟! هل هذا صحيح؟ من الجميل أن يجد المتلقي مثل هذا الترابط العميق بين أعمالي وبين الروح الصوفية التي تتجلى في شعر ابن الفارض. قد يكون التأثر بهذا العمق الروحي والانغماس في المعاني الصوفية انعكاساً لتجربتي الفنية والشخصية. لا شك أن التصوف، بما يحمله من رموز وتجليات وجدانية، يجد طريقه إلى الألوان والأنماط التي أستخدمها. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن أكون محصورة في تلك الدائرة، بل هو جزء من تعبير أعمق قد يتشابك فيه التأمل الفني والروحاني. على الرغم من أنني لست صوفية على الإطلاق، إلا أنني استلهمت كثيرًا من الفكرة الكامنة وراء الأيديولوجية الصوفية، مما دفعني إلى إنشاء سلسلة من اللوحات بعنوان “التصوف.” هذه الأيديولوجية تستند إلى تجربة غير أنانية للصدق والنية النقية في مسار تحقيق حالة روحانية سامية. هذه الرحلة الروحية تتطلب التفاني والحب، والصوفي هو من يسير في هذا الطريق حبًا في الحقيقة. بالنسبة للكثيرين، التصوف هو معيار أخلاقي، لكن بالنسبة لي هو تجسيد للنقاء والجمال العاطفي. الرغبة في البحث عن الصدق هي ما حاولت تصويره في أعمالي. كل لوحة تعكس عاطفة مختلفة في لحظة زمنية معينة، وكل لون هو تمثيل لحالة ذهنية داخل هذه الرحلة نحو تحقيق الحقيقة. * تحضر المرأة بشكل واثق، رائع وحالم في اعمالك وبألوان تجعل الروح تسمو؛ كأنك على لسان المرأة تقولين: ظن العذول بأن العذل يوقفني / نام العذول وشوقي زائد نام؟ العبارة التي تذكرها تعبر عن قوة المرأة وجمال روحها، كما تلخص شعور الإصرار والرغبة في الانطلاق رغم التحديات. يمكننا اعتبار أن الألوان التي تستخدمها المرأة في أعمالها تعكس تلك المشاعر، حيث تجعل الروح تسمو وتعبر عن الأحلام والأمل. يمكنك أيضًا إضافة لمسة شخصية تعكس تجربتك الخاصة أو رؤيتك عن دور المرأة في الفن. تظهر المرأة في أعمالها بشكل واثق ورائع، حيث تستخدم ألوانًا تجعل الروح ترتفع كأنها تتحدث بصوتها: ‘ظن العذول أن اللوم سيوقفني، بينما أنا أواصل طريقي بشغف لا ينتهي، حتى وإن نام العذول وشوقي لا ينام. * يقول بتهوفن: لا يمكن تحمل الفن الحقيقي.؛ باقي ماذا تقول؟ المرأة في أعمالي تحمل دائماً قوة داخلية ورؤية خاصة، تعبر من خلال الألوان والرموز عن عمق روحها وتحديها لما يحيط بها. وكأنها تقول: “رغم كل العوائق، فإنني أسمو بشوقي وأحلامي، والعذول وإن حاول ثنيي، فهو لا يعرف قوة ما أحمله بداخلي.” أما ما يقوله بيتهوفن: “لا يمكن تحمل الفن الحقيقي”، فهو إشارة إلى أن الفن الحقيقي لا يمكن تجاهله أو الهروب منه؛ لأنه يلامس أعماق الروح ويكشف عن حقائق قاسية أو مؤثرة. الفن، في هذه الحالة، ليس مجرد ترفيه أو جمال عابر، بل هو تجربة تحمل في طياتها قوة لا تحتمل إلا بفهم عميق وشعور حقيقي. أما ما تبقى ليقوله: “الفن الحقيقي هو صرخة الروح التي لا تهدأ، ورغبة في التحرر مما لا يستطيع العالم التعبير عنه بكلمات”. * يقول جلال الدين الرومي: “ليرتفع منك المعنى لا الصوت، فإن ما يجعل الزهر ينبت هو المطر لا الرعد”. من خلال الفن واللوحة كيف يكون ذلك ممكنا للفنانة سيما؟ تعبير جلال الدين الرومي يعكس عمق المعنى وأهمية الجوهر على المظهر الخارجي، وهو يشبه الفن في جوهره. من خلال اللوحة، يمكن للفنان أن ينقل معاني عميقة ومشاعر قوية دون الحاجة إلى الصخب أو الإبهار البصري المبالغ فيه. يمكن أن تكون الألوان الهادئة والخطوط البسيطة هي القوة الصامتة التي تحرك العواطف وتلامس الروح. الفنانة تستطيع أن تعبر عن أفكارها العميقة بطريقة لطيفة، حيث يكون التركيز على التفاصيل الصغيرة والمعاني الخفية وراء العناصر المرئية، مثل ما يقوم به المطر بلطفه، حيث يروي الأرض ويجعل الزهور تنمو في صمت وهدوء. المعنى الفني يرتفع عندما يستطيع الفنان أن يوصل فكرة أو شعورًا بعمق وصدق، دون أن يضطر إلى رفع صوته بالألوان الصارخة أو التفاصيل المفرطة. * منذ العصر الأول بحث الإنسان عن الألفة وراح يحاول أن يترك اثرا بالمكان، فرسم الحيوان، كتب القصيدة ونحت حبيبته، وهكذا وصلنا من الإرث الإنساني الحضاري ما جعلنا نعيش الدهشة؛ برأيك في هذا الضجيج اللوني المنفلت كحزمة ضوء، كيف يترك الفنان بصمة ممتدة عبر الزمن؟! الفنان يترك بصمة ممتدة عبر الزمن عندما يستطيع أن يدمج بين حساسيته الفردية وعمق تجربته الإنسانية في عمله. هذا الدمج يجعل عمله يتجاوز اللحظة الآنية ليصل إلى أجيال قادمة. في هذا “الضجيج اللوني” كما وصفته، يبرز الفنان المميز حين يتمكن من التقاط تفاصيل معينة من العالم الذي يحيط به، ثم يعيد تفسيرها بأسلوبه الخاص، ليمزج بين الوعي الثقافي والمعرفي والشعوري. الألوان، الأشكال، المواد، وحتى التقنيات تصبح كلها أدوات تعبير عن رؤيته، لكن الأهم من ذلك هو قدرة الفنان على إيجاد لغة عالمية تخاطب الإنسان في كل زمان ومكان. فكما ترك لنا فنانو العصور القديمة آثارًا لا تزال تدهشنا، يبقى سر البصمة الفنية الممتدة في القدرة على تحويل التجربة الشخصية إلى تعبير عالمي يتردد صداه عبر الزمن. الإرث الحضاري الذي نعيشه اليوم هو نتيجة لعمل فنانين لم يلتزموا بالمألوف، بل دفعوا حدود التعبير الإنساني نحو أبعاد جديدة. إن بصمة الفنان تكمن في فهمه لهذا التوازن، وفي تركه لعمل يظل مفتوحًا على التأويل، مليئًا بالمعاني التي تتجدد مع تغير الأزمان. * شخوصك في اعمالك إما في حركة متصلة او في هدوء عميق؛ لو قيض لك مرافقة شخوصك خارج اللوحة إلى اين ستأخذينهم؟! سؤال جميل وعميق! لو كان بإمكاني مرافقة شخوصي خارج اللوحة، قد آخذهم إلى أماكن تنسجم مع حالتهم، فالشخوص التي تبدو في حركة متصلة قد أرافقها إلى أماكن مفعمة بالحياة والحركة مثل الأسواق القديمة أو المدن المليئة بالطاقة والتنوع، حيث تتشابك أصوات الناس وصخب الحياة. أما الشخوص التي تبدو في هدوء عميق، فقد أختار لها أماكن طبيعية هادئة مثل شاطئ منعزل أو غابة خضراء، حيث يمكنهم التأمل والانغماس في السكون، بعيداً عن ضجيج الحياة. ربما يكون الهدف من هذه الرحلة هو السماح لهم بمواصلة استكشاف ذواتهم، سواء في حركة مستمرة أو هدوء صامت. * الثورة الجمالية الدائمة هي وظيفة الفن. هربرت ساركوز ؛ متى نصل إلى هكذا نضج لفهم وظيفة الفن في حياتنا؟ فهم وظيفة الفن في حياتنا يتطلب نضجًا فكريًا وثقافيًا، وهو يتطور مع مرور الوقت. قد نصل إلى هذا النضج من خلال التجربة الشخصية، والتعليم، والانفتاح على الفنون المختلفة. من المهم أيضًا أن نتفاعل مع الفن بطرق متنوعة، سواء من خلال المشاهدة، أو المشاركة، أو النقد. تساعدنا الفنون على رؤية العالم من زوايا جديدة، مما يمكننا من تقدير التعقيد والجمال في الحياة. وبالتالي، فإن النضج في فهم وظيفة الفن يحتاج إلى وعي ذاتي، وتفكير نقدي، ورغبة في استكشاف العمق الثقافي الذي يقدمه الفن. * ماهو حلمك باقي الاستثنائي في الفن الذي تودين رؤيته على ارض الواقع؟ حلمي في الفن هو رؤية مشروع فني يجمع بين المجتمعات المختلفة ويستخدم الفن كوسيلة لتعزيز التفاهم والتواصل. أتمنى أن أرى فضاءات فنية تحتضن ورش عمل ومعارض تفاعلية، حيث يمكن للناس من جميع الخلفيات أن يشاركوا أفكارهم وتجاربهم من خلال الفن. هذا النوع من المشاريع يمكن أن يسهم في بناء جسور بين الثقافات ويعزز من أهمية الفن كوسيلة للتغيير الاجتماعي. يمكن للفن أن يسهم في تحقيق السلام بين الشعوب والسلام الداخلي بعدة طرق. أولاً، يمكن أن يكون وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار، مما يساعد الناس على فهم تجارب الآخرين. من خلال الفنون، يمكننا رؤية القضايا المشتركة بين الثقافات المختلفة، مما يعزز التعاطف والتفاهم. ثانياً، يمكن أن تجمع الفعاليات الفنية المجتمعات معاً، مما يخلق مساحة للحوار وتبادل الآراء. الفنون يمكن أن تكون منصة للتعاون بين الفنانين من خلفيات مختلفة، مما يعكس التنوع ويعزز الروابط الإنسانية. أخيراً، يمكن للفن أن يلعب دوراً في الشفاء الشخصي، حيث يتيح للأفراد التعبير عن مشاعرهم وتجاربهم، مما يساهم في تحقيق السلام الداخلي. من خلال الإبداع، يجد الكثيرون فرصة للتأمل والتواصل مع ذواتهم. * يقول إبن الفارض : “يا لائما لامني في حبهم سفها / كف الملام فلو احببت لم تلم” ؛ الحب بوصفه حالة إيجابية كيف تصفينه باقي في حياتك اليومية والفن، وما قدرته على تغيير حياتنا؟ الحب، كما وصفه ابن الفارض، هو قوة حيوية تؤثر في جوانب الحياة اليومية والفن بطرق عميقة. في الحياة اليومية، يمكن أن يظهر الحب من خلال العلاقات الإنسانية، سواء كانت عائلية أو صداقة أو رومانسية، حيث يمنحنا الحب الشعور بالأمان والقبول. في الفن، الحب يمثل مصدر إلهام لا ينضب، فهو يُحفز الإبداع ويعبر عن المشاعر الإنسانية الأكثر عمقًا. يمكن أن نجد الحب في الشعر، الموسيقى، والرسم، حيث يُعبر الفنانون عن تجاربهم العاطفية بأساليب متنوعة، مما يجعل الأعمال الفنية قادرة على التواصل مع الناس بطرق شخصية وعميقة. علاوة على ذلك، الحب يمكن أن يُغير حياتنا بشكل جذري. إنه يدفعنا للبحث عن الجمال، ويشجع على التعاطف والتفاهم، مما يعزز من العلاقات الإنسانية ويؤدي إلى مجتمعات أكثر تماسكًا. لذا، فإن الحب هو ليس مجرد شعور، بل هو قوة تحفز التغيير وتخلق تأثيرًا إيجابيًا في حياتنا اليومية.